Syrian Symphony Album Cover

مالك جندلي السيمفونية السورية

 

السيمفونية السورية هي السيمفونية رقم 1 في قائمة سيمفونيات مالك جندلي، بدأ تأليفها عام 2011 في الولايات المتحدة الأمريكية، أما تسجيلها فكان في موسكو بأداء الأوركسترا الروسية الفيلهارمونية، وقد شهدت عملية التأليف بعض الانقطاعات والتوقف لإنجاز مؤلفات موسيقية أخرى، مثل كونشرتو الكمان والأوركسترا، تنويعات للبيانو والأوركسترا، سوريا نشيد الأحرار، ثلاثي البيانو والتشيللو والعود. تم الانتهاء من الحركة الثالثة البطيئة خلال أسبوع واحد فقط، بعد وقت قصير من الهجوم الكيماوي على الغوطة – ريف دمشق بتاريخ 21 أغسطس/ آب 2013، ثم أُطلقت السيمفونية وعُزفت للمرة الأولى في قاعة كارنيغي الأمريكية بنيويورك يوم 31 يناير/ كانون الثاني 2015.

عندما قام الشعب السوري بثورته السلمية من أجل الحرية وحقوق الإنسان والعدالة، وعندما كانت القذائف وكافة صنوف الأهوال تسقط على أهل سوريا، فتجبر ملايين العائلات السورية بما فيها عائلة الموسيقار على الهجرة إلى المنافي، عندما كان يحدث ذلك كله وفي تلك الظروف العصيبة، كان مالك جندلي يؤلف موسيقى السيمفونية السورية وغيرها من الأعمال النابعة من صميم الثورة ومأساة الشعب السوري كواجب والتزام وطني وأخلاقي، إذ أراد جندلي أن يمنح صوتاً لمن لا صوت لهم، وأن يُسمع العالم صوت ثورة بلاده بشكل آخر من خلال الفن، وأن يوثق ذلك الحدث التاريخي العظيم ويدون بأحرف الموسيقى صفحات ملحمية من تاريخ سوريا والشعب السوري، وأراد كذلك أن يجد من سوف يأتي بعد مئات السنين أعمالاً فنية موسيقية تعبر عن هذه الثورة، وتروي شيئاً من نضال هذا الشعب وما بذله في سبيل الحرية والكرامة.

تتكون السيمفونية المؤلفة في سلم F الكبير من أربع حركات تسير على نحو (سريع لكن ليس شديد السرعة – معتدل – بطيء – سريع) تُشكل في مجموعها هيكلاً بنائياً فريداً، يحمل إلى جانب دقة تصميمه أثراً درامياً ونفسياً كبيراً، حيث يُصور أفكاراً وألواناً متعددة من المشاعر الوطنية والإنسانية، كما تهدف السيمفونية إلى حفظ الذاكرة والتراث والهوية الثقافية لسوريا في لحظات بالغة الأهمية والخطورة من تاريخها.

جسّد مالك جندلي في سيمفونيته عنفوان الثورة السورية وإشراقها وقوتها الواثقة، والإيمان العميق بالحرية وحقوق المرء العادلة التي يجب أن ينالها في وطنه، وما تعرّض له الشعب السوري الثائر من أعنف أنواع القمع والاستبداد في مواجهته لأعتى الديكتاتوريات، وصوّر ذلك الصراع الرهيب بين الحق والسلم وقيم الخير ومبادئ العدل من جهة وأقصى درجات التوحش والطغيان من جهة أخرى، وعبّر عن لحظات الأمل واستنشاق هواء الحرية وتنّسم عبيرها عندما تسير الموسيقى بخفة ورشاقة كما لو أنها ترقص رقصة الحرية، كما جسّد الآلام والأحزان والتعب الجّم من جراء المواجهة، واللحظات الأكثر سوداوية وسط بحور الدماء وبقايا أجساد تناثرت وطفولة ذُبحت من الوريد إلى الوريد، ثم أعلن استعادة القوة ومحاولة ترميم النفس السورية على الرغم من كل ما حدث، وشد الأزر والاتحاد والعزم على المضي في طريق الحرية الذي لا طريق غيره. تصل كل هذه الصور والأفكار إلى المستمع بينما هو يصغي إلى موسيقى السيمفونية السورية في حركاتها الأربع، حيث يمكن القول إن كل حركة من هذه الحركات تعكس حالة من حالات الثورة وطوراً من أطوارها، وأثناء الإصغاء تحيط بالسامع مجموعة كبيرة من الجماليات كالنسيج البوليفوني البديع والثيمات الموسيقية الرائعة حيث نستمع إلى عدة ألحان وخطوط ميلودية في وقت واحد، وأسلوب البناء الموسيقي المحكم، وتطور الألحان والانتقالات النغمية وكيف تؤدي كل نغمة إلى الأخرى والترابط والتشابك بين الأفكار والمواضيع الموسيقية، والانطلاق من ثيمة أو جملة موسيقية نحو شيء هائل أكبر وأضخم، وتوزيع السيمفونية على آلات الأوركسترا المختلفة حيث تقوم كل آلة بدورها الصوتي والتعبيري وايحائها الشعوري والنفسي كما وظفها الموسيقار، وتراوح الإيقاع بين درجات السرعة والبطء وتبدل الأجواء بين الألم والأمل، وخلق الصراع والتفاعل الموسيقي والبراعة في ابتداء كل حركة وانهائها ببلاغة موحية، وذلك الاتصال الذي يوحي بالشكل الدائري عندما تُعزف ثيمة الحركة الأولى في ختام السيمفونية.

بالحركة الأولى تبدأ السيمفونية ومع أولى نغماتها يدخل المستمع في أجواء العمل وينغمس تدريجياً في موضوعه ويتعرف على أفكاره الواحدة تلو الأخرى، يمكن القول إن الحركة الأولى هي حركة قيام الثورة، فقد هب الشعب وانطلق شجاعاً مقداماً واتخذ خطوته الجبارة نحو الحرية، ثم اصطدم بأبشع أنواع الطغيان والاستبداد والديكتاتورية وأقسى أساليب القمع والتنكيل، وخاض صراعاً رهيباً تصوره الموسيقى ببراعة. الحركة الأولى أطول حركات السيمفونية وهي حركة سريعة لكن ليست سريعة للغاية تحتوي على ثيمتين مستلهمتين من أغنيات الشارع السوري، يمكن تقسيم هذه الحركة إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول الذي يتم فيه عرض الثيمتين، الثيمة الأولى والثيمة الثانية، أو الموضوع الأول والموضوع الثاني، ثم القسم الثاني الذي يتم فيه التفاعل بين هاتين الثيمتين وأفكار موسيقية أخرى، حيث يجري تناول الموضوعين بطرق جديدة وبشكل حر بالإضافة إلى تحوير الألحان والتنويع عليها وانتقال الموسيقى بين مقامات مختلفة، انتهاءً بالقسم الثالث قسم التلخيص أو الختام، وفيه نستمع إلى ما يعقب الصراع في قسم التفاعل الذي ينتهي بذروة هائلة وتصاعد موسيقي كبير.

يتنقل السامع بين جمل موسيقية وذروات وألحان تلعبها الآلات الموسيقية المختلفة من وتريات وهوائيات خشبية ونحاسيات وآلات الإيقاع والهارب والإكسليفون، وتتبع الأذن ثيمتي الحركة في تطورهما وتكرارهما وما يقع من تبادل بينهما، الثيمة الأولى وهي أكثر درامية، والثيمة الثانية وهي أكثر ميلودية أو أكثر غنائية، وتنتقل الموسيقى من الصيغة الدرامية إلى الصيغة الغنائية عبر جسر انتقالي قصير يضيف جمالاً إلى الموسيقى، يعود اللحن الرئيسي في القسم الثالث من الحركة بصورة هادئة مع لحن آخر تؤديه الكمان والباصون، وتعود الثيمة الغنائية في النهاية مع خفوت الموسيقى وصمت الختام، وفي منتصف الحركة تقريباً نجد استعادة جزئية للموضوع الموسيقي الأول أو الثيمة الأولى، فنسمعها متقطعة مجزأة على مراحل، كما لو أنها تتناثر وتتفرق على اللحن، أو كأنها تحاول أن تلتئم وتجمع شتاتها لتنطلق كاملة.

الحركة الثانية متوسطة السرعة فيها لحن حيوي ذو ميلودية جميلة مفعم بالحياة موقع بإيقاعات رشيقة كأنه رقصة الحرية، يتكرر هذا اللحن عدة مرات في حركة ليست بالطويلة فيصبح التكرار جمالية في حد ذاته، نظراً للإبداع والتنويع وخلق الأثر الشعوري الجديد في كل مرة يتكرر فيها هذا اللحن، هنا في هذه الحركة نشعر بأن المعنويات مرتفعة وإن كان يتخللها لحظة حزن ربما لتذكر من ذهبت أرواحهم فداءً لحرية الوطن والشعب، هذا اللحن الرئيسي أو الثيمة الأولى توقعه ضربات الآلات الإيقاعية، مع جسر انتقالي حزين قصير يؤدي إلى ظهور آخر للثيمة بتلوين جديد مع ثراء إيقاعي أكبر، ثم نستمع إلى لحن آخر أكثر غنائية كأنه نشيد ينشده الشعب ينتهي إلى ذروة متوسطة القوة مع لحظة صمت في المنتصف تفعل أثرها كلحظة تفكر أو تأمل، من بعدها تشد الموسيقى أزرها مرة أخرى وتقوم من جديد بحيوية أكبر إلى أن تنتهي الحركة بثيمة البداية التي تُعزف لمرة واحدة على الكمان تليها ضربة إيقاعية كبرى تعلن الختام.

تبدأ الحركة الثالثة بضربات خافتة تأتي من بعيد الواحدة تلو الأخرى يتضح صوتها ويقوى تدريجياً مع سحبات الأقواس على الأوتار، هي بداية مشوبة بالقلق والخوف والتوتر كجريح قادم من بعيد ينزف ألماً ويحاول أن ينهض بصعوبة، يستمر القلق وتتجمع الأصوات وتتصاعد ثم نستمع إلى ثيمة حزينة بتعبيرات مختلفة من الفلوت والكمان حيث يسيل حزن الكمان المنفرد كزفرات حارة ودموع وعبرات مفعمة بالأسى، في نهاية الحركة تعزف الكمان الثيمة الرئيسية بصيغة أبطأ تنتهي إلى الامتداد والخفوت مع الضربات المتوترة في الخلفية. الحركة الثالثة هي الحركة البطيئة في السيمفونية ويغلب عليها الحزن والسوداوية وقد منحها ذلك اللون القاتم المزيد من الجاذبية، تبدو الأنغام مترعة بالآلام والحسرات تصف ما يقاسيه الشعب السوري وهو يسير في طريق الحرية الشائك العسير. يمكن القول إن الحركة الثالثة هي الفصل المُتعَب المكدود من فصول الثورة، حيث المجازر الوحشية والإبادة الجماعية التي قتلت ظلماً وعدواناً الآلاف من السوريين واغتالت الطفولة على أبشع صورة ممكنة، وحيث السجن والاعتقال والتعذيب والتهجير القسري وكافة الفظائع التي ترتكب في حق الإنسانية.

دخول موسيقي واثق يعلن بداية الحركة الرابعة، ذروة قوية تأتي سريعاً، ثيمة تتكرر ذات إيقاع راقص إلى حد ما، تصاعدات متتالية في المنتصف وتفاعل كبير يعقبه هدوء وتصاعد تدريجي لبعض النغمات القليلة، ثم نستمع إلى ثيمة الحركة الأولى في القسم الأخير من الحركة الرابعة بتحوير مختلف، إلى أن تنتهي الحركة الرابعة بذروة هائلة هي أكبر ذروات السيمفونية تعلن الحشد الكامل للقوة، والعزم على المضي في طريق الثورة إيماناً بقدرة الشعب الذي يجب أن تكون له الغلبة في النهاية مهما بلغت سطوة الديكتاتور من تجبر وطغيان، فالشعب يكون أقوى دائماً باتحاده وتماسكه، تبدو المعنويات مرتفعة في هذه الحركة أيضاً التي تتداخل فيها أصوات الآلات الموسيقية وتتقاطع ويلاحق بعضها بعضاً، ويتعاقب استنباط النغمات وخلق الأثر المعنوي الإيجابي، هي حركة تتوهج بحرارة الثورة وتنتهي بوميض الأمل والرجاء.

العنقاء في المنفى

عندما قامت الثورة السورية عام 2011 وانتفض الشعب السوري وهبّ في وجه الطغيان والديكتاتورية، وطالب سلمياً بحقوقه الإنسانية العادلة المشروعة في وطنه، ونادى بالحرية بعد عقود طويلة من القمع والقهر والاستبداد، انفتحت عليه أبواب الجحيم في الداخل السوري، وتوالت عليه المحن من مجازر رهيبة وإبادة جماعية بالكيماوي والبراميل المتفجرة وشتى صنوف الأهوال، بالإضافة إلى السجون والمعتقلات والتعذيب والتنكيل الذي استشرى وانتشر في كل مكان على أيدي شبيحة الديكتاتور. لكن المعاناة لم تقتصر على من ظلوا داخل سوريا، فقد انفتحت كذلك أبواب المنافي على مصراعيها ليجد الشعب السوري نفسه أمام واحدة من أكبر حركات التهجير في التاريخ، حيث نزحت أعداد هائلة من السوريين فراراً من انتقام دموي مجنون ومطاردة ديكتاتور لشعب طالب بحريته وحقوقه في وطنه. ولن تُمحى من الذاكرة القريبة أو البعيدة صور الشعب السوري في خضم البحار وعلى شواطئ العالم أحياء وموتى، وفي الطرقات الباردة بين حدود الدول الأوروبية، وفي مخيمات اللجوء في الدول المجاورة لسوريا.

عرف السوري المنفى إذن واضطر إلى التعامل معه، وإن كان قد عرف الهجرة والسفر والترحال من قبل سعياً في مختلف بلاد الأرض لأسباب مختلفة كتحصيل العلم والرزق مثلاً، فإنه بعد ثورة 2011 اختبر المنفى بأقسى معانيه، فأي أرض غير الوطن يذهب إليها المرء قسراً دون اختياره الحر، اضطراراً وفراراً من الظلم وجحيم الديكتاتورية وكل ما يهدد حياة الإنسان ويحول الوطن الأم إلى مكان غير آمن يمثل خطراً على أهله، أي أرض أخرى في تلك الحالة تصير منفى، وقد ذهب السوريون إلى المنافي جبراً وقسراً، حتى من كان مهاجراً من قبل لسبب أو لآخر تحول مهره إلى منفى، وتحول الوطن إلى مكان لا يمكن العودة إليه بسهولة على الأقل في الوقت الحالي وفي ظل الظروف الحالية.

عندما يؤلف الموسيقار مالك جندلي مقطوعة موسيقية تتناول فكرة الوجود السوري في المنفى، فإنه يعبر عن أمر يختبره بشكل شخصي هو وعائلته، ويختبره بشكل عام أيضاً كمواطن سوري وكفنان ملتزم بقضايا وطنه وأهله من السوريين، وكناشط لا ينفصل بفنه عن حقوق الإنسان والقضايا العادلة ومآسي اللاجئين، خصوصاً الأطفال الذين زارهم بنفسه في مخيمات اللجوء وألهموه عندما كانوا يغنون ذات ليلة، رغم كل ما يمرون به من ظروف قاسية تغتال طفولتهم، لكنهم كانوا وسط كل هذا الحطام يتشبثون بالحياة، وما توفر لهم من قليل العيش والتعليم، وكانوا يمارسون ما يمكن من الفنون بشكل فطري غريزي، يدل على أن الفن احتياج حيوي وأساس من أساسيات الحياة وليس من كمالياتها. 

أعجب مالك جندلي بقوة الحياة الكامنة في أعماق هؤلاء الأطفال واستحضر في مخيلته العنقاء أو الفينيق، ذلك الطائر الأسطوري الهائل بجناحيه الكبيرين الذي يحترق ويحيا من جديد وينبعث من الرماد محلقاً بقوة كما لو أنه لم يمت ولم يحترق. من هنا أتت مقطوعة العنقاء في المنفى التي تنظر بعين فلسفية متأملة إلى حقيقة وجود أعداد كبيرة من السوريين في المنافي، لكن هذه العين تراهم كالعنقاء التي لا تموت وإن احترقت وصارت رماداً ودائماً تنبعث من جديد، ينظر مالك جندلي إلى السوريين في المنافي وهم يجمعون شتات أمرهم ويتخطون جراحهم الأليمة العميقة، ويلملمون أطراف قوتهم ويستعدون للنهوض من جديد، والتحليق عالياً بأجنحة ضخمة قوية تشق طريق العودة نحو الوطن السوري.

تتميز هذه المقطوعة الموسيقية بمهارة بناء الصورة الموسيقية، وعلى مدى سبع دقائق تقريباً يدخل المستمع إلى ذلك الخيال وتأثيراته النغمية بهارمونيتها الدقيقة المحكمة، وحسن توظيف الآلات الموسيقية والإيقاع الموحي بدرجة كبيرة وانتظام الخطوط الميلودية. في مقطوعة لم يشارك فيها البيانو يمكن القول إن الموسيقار اعتمد على أوركسترا متوسطة الحجم إلى حد ما أو ليست أوركسترا كبيرة للغاية، ووظف بشكل أساسي مجموعة الوتريات بتشكيلها المعتاد والهوائيات الخشبية والنحاسيات.

مع بداية المقطوعة نستمع إلى صوت الأوبوا، التي تعزف اللحن الرئيسي المكون من جملة موسيقية تتكرر لمرة ثانية بتنويع مختلف قليلاً، وبتنويع أكبر في المرة الثالثة يذهب بنا نحو الأمام في عمق المقطوعة ويمتد بانضمام الوتريات والنحاسيات. لآلة الأوبوا حضورها البارز في المقطوعة ولصوتها المنفرد الأثر البليغ، وكذلك لكل من الفلوت والبوق الفرنسي دورهما في صنع تلك النبضات الصوتية، والتقطعات المتفرقة المنتظمة في إيقاع بطيء هادئ قد يعبر عن محاولات النهوض، وقد يشعر السامع في بعض اللحظات بالهدوء الشديد إلى درجة أن يظن أن الصمت هو الغالب، عدا تلك النبضات الموسيقية نظراً لمدى دقتها وقوة وعمق تأثيرها وقدرتها على الاستحواذ على أذن السامع وإحساسه ومخيلته، كما أنها تشد وتجذب انتباهه وتجعله في حالة ترقب لما هو قادم وما تؤدي إليه تلك النبضات، وقد يشعر السامع أيضاً بأنها خط الحياة الذي لا ينقطع ويظل ممتداً حتى في أوقات الرعب والخطر، أو أنها هي الحياة التي لا تموت،وقد يتخيل السامع مجموعة من الطيور تطير وتحلق وتطلق غناءها الجماعي في عنان السماء.

ينتقل مالك جندلي بسامعه في هذه المقطوعة بين المشاعر والأفكار بأسلوب متميز في الكتابة الموسيقية، والتلوين الأوركسترالي الذي ابتعد فيه عن التكثيف والحشد الكبير لمجموعات الآلات الموسيقية، وركز بدقة على وصف وتصوير الحركة والحياة التي تدب من جديد في العنقاء المنفية بحثاً عن الحرية والأمان، مع براعة اللمسات الإيحائية وخلق الصورة بواسطة الأنغام، كما لو أن الموسيقى تعلو في الفضاء آخذة في السمو والصعود والاتساع، تنمو الموسيقى تدريجياً بتوازن قوي وبتآلف النغمات المتقطعة، التي تمثل قوة دفع كامنة تتحرك بالشكل الإيقاعي في مساره، وهذا الثقل الذي يمثل صعوبة الحياة في المنفى، ومحاولات بناء ميلوديا جديدة وحياة جديدة.

العنقاء في المنفى موسيقى تؤثر في السامع وتثير مخيلته وأفكاره، بكل ما اشتملت عليه من صور وجماليات وإيمان عميق بقوة الوجود السوري.

لما بدا يتثنى

تنويعات للبيانو والأوركسترا

تم تسجيل هذا العمل الصادر عام 2015 في موسكو بأداء الأوركسترا الروسية الفيلهارمونية تحت قيادة المايسترو سيرجي كوندراشيف، يستغرق عزف المقطوعة تسع دقائق وهي كما يبدو من عنوانها مؤلفة للبيانو والأوركسترا وتنتمي إلى فئة التنويعات، والتنويعات في الموسيقى الكلاسيكية تقنية من تقنيات التأليف الموسيقي تعتمد على أخذ لحن رئيسي وإعادة صياغته عدة مرات بطرق مختلفة والتنويع عليه، فلا هو يبقى على شكله الأصلي وفي نفس الوقت لا يتغير تماماً ولا يختفي أو تضيع ملامحه بالكلية، بل على العكس يمكن القول إنه يمتد ويتضاعف ويكتسب وجوداً آخر وحيوات موسيقية متعددة. 

يقوم هذا العمل على اللحن العربي الشهير “لما بدا يتثنى” الذي يعد من أشهر الموشحات الأندلسية المغناة والمحفوظة لدى الجميع تقريباً، يختلف البعض في تحديد مؤلف موشح لما بدا يتثنى، فهناك من ينسبه إلى لسان الدين بن الخطيب وهناك من ينسبه إلى محمد عبد الرحيم المسلوب، لكنه موشح أندلسي على كل حال صياغة وقالباً، والموشح فن نشأ في الأندلس وإليه يعود أصله وجذوره. وعندما يقوم الموسيقار مالك جندلي بتناول فن الموشح الأندلسي ضمن مؤلفاته ومشروعه الموسيقي الكبير، فإنه لا يتناول تراثاً عربياً عاماً وحسب، بل يتناول تراثاً موسيقياً متأصلاً في سوريا في الوقت نفسه، فإن فن الموشح كما هو معروف من الفنون المتغلغلة في الثقافة الموسيقية السورية، وتعد سوريا مرجعاً في غناء الموشحات الأندلسية، ويندرج هذا في إطار عمله الذي يهدف إلى حفظ التراث السوري وحماية الثقافة السورية من الضياع والاندثار، وتوظيف ألوان الموسيقى السورية التراثية والتقليدية والمقامات الشرقية بطريقة أكاديمية ضمن علم الهارموني للموسيقى الكلاسيكية.

تبدأ المقطوعة بلحن الموشح الأصلي حيث نسمعه بصوت الهوائيات الخشبية مع نبرات الوتريات المنتظمة في الخلفية، يعزف اللحن للمرة الثانية وقد تم تحويره قليلاً، وفي المرة الثالثة يظهر البيانو، تقوم الوتريات بعزف الثيمة الرئيسية بينما يدخل البيانو بخط ميلودي آخر نسمعه في الوقت نفسه مع اهتزاز الوتريات وخفوتها، يعزف البيانو الثيمة منفرداً بتنويعات ارتجالية تشبه التقاسيم إلى حد ما، ونكون مع ذروة هائلة كصوت نفير مرتفع من الثيمة، يعود البيانو لارتجالاته ويتسارع عزفه للثيمة مع نغمات إضافية مختلفة، تتفاعل الموسيقى بشكل صاخب وسريع، وتحتشد آلات الأوركسترا من إيقاع ونحاسيات، ومع البيانو ذروة أخرى تقود إلى عزف الثيمة بوتيرة أسرع وتذهب الأوركسترا نحو تصاعد هائل ويتكرر النفير، وفي الجزء الأخير من المقطوعة يعزف البيانو نغماته الخاصة الحالمة الهادئة بشكل بطيء.

يبرز هذا العمل لانهائية الموسيقى وإمكانية تذوقها جمالياً بألوان عدة بلا حدود، ويمكن القول إننا نستمع من خلال هذه المقطوعة إلى أكثر من “لما بدا يتثنى” في وقت واحد باكتشافات رائعة لجمال الأنغام وقوة الأفكار. حيث يستعرض مالك جندلي في هذا العمل اللحن الأساسي في البداية، ويقدمه إلى السامع كموضوع المقطوعة الأساسي الذي سيتم العمل عليه، ثم يعرض علينا الصورة تلو الأخرى من هذا اللحن وقد لونه بألوان مختلفة، وكل صورة من تلك الصور تكون مختلفة عن الأخرى ولا يكرر جندلي نفسه فيها. تتعدد الجماليات الموسيقية في هذا العمل سواء الهارمونية أو الكونترابنطية، ويشعر المستمع بالتنوع الشديد والتطور المستمر وتوالي الأفكار الموسيقية، كما يبرز دور الإيقاع إلى جانب الميلودي خصوصاً في الأجزاء الدرامية الصاخبة حيث يتجلى صوت النحاسيات وطبقات الأصوات الغليظة، بينما يبرز صوت البيانو والوتريات والهوائيات الخشبية في الأجزاء الغنائية الشاعرية الناعمة، كما أن هناك نقاط الارتفاع والانخفاض والتفاعل الحار وإرسال اللحن ومعه لحن مضاد، والتدفق المستمر وانتقالات الأنغام في حركة متصلة والاستطراد والتعارض، ويلاحظ السامع أنه مع الخطوط الميلودية الطويلة ذات الطابع الغنائي الناعم تقترب المقطوعة من اللون العربي الخالص، ومع قصر الخطوط الميلودية وعدم ترك اللحن لينساب في غنائيته ومع التوزيع الأوركسترالي ذي الألوان المتعددة، تقترب المقطوعة من الشكل الكلاسيكي الغربي بكل نبراته وتفاصيله.