مالك جندلي كونشيرتوز

كونشيرتو الكلارينيت والأوركسترا

بدأ مالك جندلي في تأليف كونشرتو الكلارينيت والأوركسترا عام 2019 وتم الانتهاء منه عام 2021، أما التسجيل فكان في فيينا مع أوركسترا راديو فيينا السيمفوني بقيادة المايسترو مارين ألسوب. صدر كونشرتو الكلارينيت والأوركسترا ضمن ألبوم كونشرتوز الذي يضم إلى جانبه كونشرتو آخر هو كونشرتو الكمان والأوركسترا. قام مالك جندلي بإهداء كونشرتو الكلارينيت والأوركسترا إلى عازف الكلارينيت الأمريكي أنطوني ماكغيل وجعله تخليداً لذكرى كل ضحايا الظلم في العالم.يعد أنطوني ماكغيل من أمهر عازفي الكلارينيت المعاصرين، وهو العازف الرئيسي في أوركسترا نيويورك الفيلهارموني بالإضافة إلى دوره الأكاديمي الذي يقوم به في بعض الجامعات والمعاهد المتخصصة.

كما ألف موتسارت أعمالاً للكلارينيت لأنطون ستادلر وكذلك برامز الذي ألف أعمالاً لريتشارد مولفيلد، قام مالك جندلي بتأليف هذا العمل خصيصاً لأنطوني ماكغيل، وعن هذا يقول جندلي إنه التقى ماكغيل للمرة الأولى عام 2018 في أحد المؤتمرات الموسيقية، وعرض عليه فكرة تأليف كونشرتو للكلارينيت خصيصاً من أجله وأعرب ماكغيل عن موافقته. 

تفاصيل الألبوم

المنتج المنفذ
مالك جندلي

المنتج الموسيقي
إريك هوفمان

مهندس الجلسات
فريدريش تروندل

المكساج والماسترينغ
بيل مايلون

مساعدو الهندسة

فيلهلم فيمر
فولفغانغ فيسلي

مساعدو التحرير

مانويل رادينغر
ميلوش إيكيتش

صورة الكتيب والغلاف
تيريزا واي، دان كارمودي

التصميم الجرافيكي والتخطيطي
فيسيليتش وفيسيليتش

تاريخ التسجيل
٢٧-٢٩ مايو ٢٠٢٢، في قاعة فونكهاوس فيينا غروسر سينديسال في فيينا، النمسا

أثناء جلسات التسجيل في فيينا قال ماكغيل عن الكونشرتو: “وسط الألم والعنف والظلم في العالم، كل ما تبقى معنا هو القدرة على أن نصب قلوبنا وأرواحنا في شيء أكثر جمالاً، شيء أكثر قوة، شيء يستطيع أن يحيا ويتواصل عبر الأزمان”، وقال أيضاً إن هذا الكونشرتو قد أثر فيه بقوة وإن فيه من اللحظات الموسيقية التي تحدثت إليه عميقاً، وإنه أثناء عزفه للكونشرتو يشعر بأنه متصل بشيء لم يكن يعرفه من قبل وهو شعور رائع أن يحاول الدخول إلى قلوب السوريين. 

في هذا الكونشرتو كما في جميع أعمال مالك جندلي ينصهر التراث السوري وتمتزج ثيماته الموسيقية القديمة بموسيقى جندلي السيمفونية، حيث يوظف موسيقى بلاده والمقامات الشرقية بطريقة أكاديمة في إطار علم الهارموني للموسيقى الكلاسيكية، مستهدفاً تقديم التراث الموسيقي السوري والثقافة السورية وحفظهما من الضياع. تقول المايسترو مارين ألسوب: “كما فعل بارتوك ودفورجاك يستخدم مالك جندلي موسيقى بلاده الثقافية التقليدية ويعمل على تطوير ثيماتها وأفكارها”، وتتحدث أيضاً عن قوة الجانب الأخلاقي والإنساني في موسيقى مالك جندلي ورغبته العميقة في أن تكون موسيقاه صوتاً لمن لا صوت لهم.

يمتد كونشرتو الكلارينيت والأوركسترا لخمس وعشرين دقيقة تقريباً ويتكون من ثلاث حركات، والمعروف أن الكونشرتو كقالب موسيقي يتيح للمؤلف أن يكتب لآلة معينة على وجه الخصوص إلى جانب الأوركسترا وبقية الآلات الأخرى، لكن التركيز ينصب على تلك الآلة التي تكون هي بطل العمل أو الصوت الرئيسي فيه، ويقوم المؤلف الموسيقي بالتعبير من خلال تلك الآلة ويعمل على اظهار قدراتها الصوتية وجمالياتها النغمية، ويصيغ الجمل الموسيقية والثيمات الدقيقة المعقدة فنياً والتي تتطلب عازفاً ماهراً صنّاعاً يتمكن من عزف ما صاغه المؤلف الموسيقي وترجمة أحاسيس القطعة الموسيقية والمعاني الكامنة فيها. وهذا ما نجده في كونشرتو الكلارينيت والأوركسترا حيث أبدع مالك جندلي في التأليف لآلة الكلارينيت وأظهر من جمالياتها الكثير مما قد يبدو جديداً على أسماع البعض، وأنطقها بألحان وثيمات ومقامات مستلهمة من التراث الموسيقي السوري تم توظيفها بلغة سيمفونية تستطيع أن تخاطب العالم وعشاق الموسيقى الرفيعة.

عند الاستماع إلى هذا الكونشرتو نشعر بأن هناك لقاء بين الشرق والغرب يبدأ بما قد يكون توتر اللقاء الأول، ثم تأتي الوقفة المتأملة كما لو أن الأنفس تهدأ وتمعن التفكير وتستعد للدخول في حوار، يبدأ الشرق هذا الحوار ويقدم نفسه بلغة شرقية لكن الصوت ليس شرقياً خالصاً، ويعمل على مخاطبة الغرب بمفردات يفهمها، هذا الصوت يمثله الكلارينيت وتتفاعل معه الأوركسترا بشكل غربي بحت، فمرات تبني على الجملة الشرقية ومرات تحاول إعادتها بطريقتها الخاصة، عادة ما تكون سولو أو نوتة بارزة لآلة ما، كما لو أن هناك من يتحدث العربية بينما أجنبي يردد من خلفه فيكون واضحاً الفرق بين لسان هذا ولسان ذاك. تستمع الأوركسترا إلى الحديث العربي وتقع تحت تأثيره ربما مع بعض التعجب والاندهاش، لكنه اندهاش إيجابي بأن اللغة مفهومة وبأن المشترك كبير، وتتداول الأمر وتتباحثه فيما بينها وتتحدث عن هذا الشيء الجديد الذي تستمع إليه وهذه الميلوديا الجديدة عليها.

لا يخلو صوت الكلارينيت من لمسات غربية تقرب صوته إلى الأوركسترا وتؤكد انخراطه في هذا العالم الموسيقي، يستمر الكلارينيت في تقديم نفسه بطريقة سلسة وأن ما يقوله هو موسيقى كأي موسيقى أخرى في هذا العالم ويأخذ في العمل على التقارب وتعارف الثقافات، ويثبت أنه جزء من الثقافة العالمية وأن المشترك بينه وبين الآخرين كبير ويبني على هذا المشترك، ويطوره للتموضع ضمن المقطوعة الموجهة للسامع الغربي خاصة الذي يتعرف عليها ويجد أنها تأخذ زمام المبادرة أحياناً وتارة تواكب اللحن من منظور المستمع العربي يتعرف هو الآخر على الموسيقى الغربية من خلال الميلوديات المألوفة من ثقافته، ويجد فيها لغة يمكن أن تحدثه عن ثقافة الغرب وتقربها إليه وتدله على المشترك الكبير. يتواصل الحوار خلال حركات الكونشرتو ويقدم لهم الجميل ويثري ما لديهم بما لديه ويتفاعل معهم على أكمل وجه، ويترك مساحة لرد فعلهم ولا يفرض اللون العربي الخالص عليهم فأحياناً يأخذ زمام المبادرة ويتصدر، وفي أحيان أخرى يواكبهم فيعزف الجميع في انسجام وتناغم.

نستمع من خلال الكونشرتو إلى العديد من الثيمات الموسيقية الخلابة، التي نسمعها بصوت الكلارينيت الشاعري المحبب إلى النفس، كما أنه هناك بعض الأنغام الحزينة التي تلامس الإحساس بضحايا الظلم في كل مكان وزمان. تتكون الأوركسترا المصاحبة للكلارينيت في هذا العمل من مجموعة الوتريات والهوائيات الخشبية والنحاسية، بالإضافة إلى الهارب والإكسليفون ومجموعة من الآلات الإيقاعية المتعددة والسيمبالز الذي يبرز صوته عند بعض المقاطع.

تبدأ الحركة الأولى البطيئة بشذرات موسيقية تكللها دقات الإكسليفون الرشيقة في تقديم أوركسترالي قصير، ومع بروز صوت النحاسيات يتخلق تصاعد يمهد لظهور الكلارينيت الذي يؤدي بعض الامتدادات النغمية الخافتة، قبل أن ينطلق بلحن جميل ويعزف منفرداً ثيمة موسيقية خلابة ترددها معه الأوركسترا في المرة الثانية وتكون في الخلفية. تنساب الموسيقى ناعمة هادئة يتخللها بعض التصاعدات والصمت الذي يأتي بعده الكلارينيت بلحن جديد وثيمة أخرى إلى أن تنتهي الحركة بالخفوت.

استلهم مالك جندلي الثيمة الرئيسية الأولى من وصلة سورية قديمة في مقام حجاز كار، تحديداً من موشح تقليدي تراثي يحمل اسم “زارني المحبوب” في إيقاع المصمودي، أما الثيمة الثانية في الحركة الأولى فهي نابعة من سماعي سوري قديم وهي ثيمة رقيقة عذبة، يعزف الكلارينيت هاتين الثيمتين ويقدمهما للسامع بصوته الساحر مع الكثير من تقنيات العزف المدهشة، وعن الثيمة الأولى التي تفيض بالخيال يقول ماكغيل إن إيقاعها يجعله يشعر بأنه يسافر إلى الماضي وأنه يتصل بشيء مؤثر وكبير.

الحركة الثانية البطيئة أيضاً جاءت عبارة عن نوكتيرن (ليلية) تمتد إلى ما يقرب من ثماني دقائق، وتتكون من ست تنويعات قصيرة مستمرة على ثيمة مستوحاة من موشح سوري قديم في مقام حجاز بعنوان “يا غزالي”. تبدأ الحركة بلحن شجي جميل وعزف رائع للكلارينيت تقطعه الأوركسترا بالتدخلات المتفرقة وبعض التصاعدات الخفيفة، وهناك كذلك بعض التأملات الهادئة المنفردة للكلارينيت إلى أن تنتهي الحركة بهدوء، الثيمة الأولى مستلهمة من بشرف سوري قديم وهناك ما قد يذكر البعض بموسيقى الليل لبارتوك.

تأتي الحركة الثالثة سريعة معتدلة وفيها يزداد تألق الكلارينيت وانفراداته، حيث يصمت الجميع في بعض اللحظات ليتحدث هو فقط، كما يكون هناك الأداء السريع الذي يتطلب مهارة كبيرة في العزف والنوتات الممتدة البارعة، ويعزف الكلارينيت ثيمة موسيقية رائعة مأخوذة عن وصلة سورية قديمة من مقام بياتي، تحديداً من موشح “يا حلو اللمى”، يستعرض جندلي من خلال الكادنزا مهارات الكلارينيت في كل طبقاته الصوتية من المنخفض جداً إلى المرتفع جداً، تنطلق الموسيقى بحيوية وثراء بعد فترة من الهدوء وتدخل في دوامة موسيقية وتصاعد هائل يعلن الختام.

كونشرتو الكمان والأوركسترا

“إلى كل نساء العالم اللواتي ازدهرن بالشجاعة” أهدى مالك جندلي كونشرتو الكمان والأوركسترا الذي بدأ في تأليفه عام 2013 وأكمله عام 2014، إلى طل الملوحي المدونة السورية التي اعتقلت في الثامنة عشر من عمرها، إلى رزان زيتونة محامية حقوق الإنسان المختفية قسراً حتى الآن، إلى رانيا العباسي طبيبة الأسنان وبطلة الشطرنج التي اختفت في غياهب المعتقل مع زوجها وأطفالهما الستة لأسباب غير معروفة منذ 2013، إلى لينا دروبي والدة الموسيقار مالك جندلي التي تعرضت هي ووالده للضرب والاعتداء الوحشي العنيف في منزلهما بمدينة حمص، بعد أن قام جندلي بالعزف في تظاهرة سلمية أمام البيت الأبيض بواشنطن عام 2011 دعماً للثورة السورية، إلى الصحفية الأمريكية العالمية ماري كولفين التي قتلتها عصابات النظام في مدينة حمص وهي تؤدي عملها بحثاً عن الحقيقة، إلى كل السجينات والمعتقلات، إلى كل امرأة وأم تختبر الخوف وتعيش ظروفاً قاسية في سوريا، إلى أمهات الشهداء، إلى أم الشهيد عبد الباسط الساروت أحد أهم رموز الثورة السورية، إلى المتطوعات في فريق الخوذ البيضاء والدفاع المدني نُصرة للمظلومين والمهجرين قسرياً في مخيمات اللجوء. 

ربما تطول القائمة وتمتد وتظل مفتوحة لا تضع نقطة النهاية لتضم المزيد والمزيد من النساء، لكن تظل رمزية هذا الكونشرتو أشمل وأكثر اتساعاً، إنه كونشرتو مهدى إلى المرأة قيمةً ومعنىً ووجوداً، كما أنه رسالة تدعو إلى تقدير المرأة وإعلاء مكانتها في كل زمان ومكان. لا يقتصر حضور المرأة في كونشرتو الكمان والأوركسترا على الفكرة والرمز فحسب، بل إن للمرأة وجودها الفعلي ودورها الحيوي الأساسي في هذا العمل الموسيقي، فهناك عازفة الكمان الأمريكية ريتشل بارتون باين التي أهدى إليها مالك جندلي الكونشرتو أيضاً، قامت ريتشل بارتون باين بعزف مقاطع الكونشرتو على كمان تاريخي يذهب بنا إلى زمن قديم وامرأة أخرى كانت من أوائل النساء اللاتي احترفن العزف الموسيقي، حيث يعود هذا الكمان التاريخي لامرأة نمساوية تدعى ماري سولدات عاشت في القرن التاسع عشر، في وقت لم يكن متاحاً فيه للنساء احتراف العمل كعازفات موسيقيات، وقد أُعجب الموسيقار الألماني يوهان برامز بعزفها وأحضرها إلى برلين لتدرس على يد صديقه جوزيف يواكيم، وأصبحت أول عازفة تؤدي أعمال برامز الموسيقية. على هذا الكمان التاريخي الذي يعود إلى ماري سولدات عزفت ريتشل بارتون باين أثناء تسجيل الكونشرتو إلى جانب أوركسترا راديو فيينا السيمفوني، التي قادتها امرأة أيضاً تعد من الرائدات المتميزات في مجال جرت العادة أن تكون الغالبية فيه من الرجال، وهي المايسترو الأمريكية مارين ألسوب التي شاركت مالك جندلي في تسجيل وتقديم العديد من أعماله. هكذا كانت المرأة جزءاً أصيلاً من كونشرتو البيانو والأوركسترا الذي يصور بعضاً من معاناة نساء سوريا الهائلة ويحتفي بشجاعتهن، ويحفظ في الوقت ذاته تراث سوريا الثقافي ويقدم وجوهاً وألواناً من فنونها الموسيقية بشكل هارموني بديع في موسيقى سيمفونية أوركسترالية رفيعة.

تتصدر الكمان كبطلة للعمل ترافقها الأوركسترا التي تشاركها وتدعمها وتتفاعل معها، وتحيطها بالكثير من التأثيرات الأخرى وتخلق من حولها الأجواء اللازمة للتعبير عن موضوع الكونشرتو، وبشكل عام يتيح قالب الكونشرتو للمؤلف الموسيقي فرصة إظهار مهارته في التأليف لآلة موسيقية بعينها، وهو ما يتطلب بدوره مهارة كبيرة من العازف الذي يجب أن يكون عازفاً متميزاً صنّاعاً. في كونشرتو الكمان والأوركسترا نستمع إلى مجموعة رائعة من الثيمات والألحان والجمل الموسيقية، سواء التي تؤديها الكمان منفردة أو التي تؤديها الأوركسترا والآلات الموسيقية الأخرى، ونستمع كذلك إلى مجموعة من الألحان القديمة من تراث سوريا الموسيقي، والمقامات الشرقية العربية وقوالب السماعي والبشرف ورقصة اللونجا السورية التراثية، قدم مالك جندلي كل هذا في إطار هارموني أوركسترالي متقن من خلال عمل موسيقي فريد بفكرته ورسالته السامية، وكذلك بتركيبه الفني المعقد الممتلئ بالتفاصيل الثرية رائعة التنسيق، ويتميز هذا العمل أيضاً بوجود العود، ذلك الصوت العربي الخالص الذي ضمه جندلي إلى الأوركسترا ووظف أنغامه كتعبير عن الوطن السوري والهوية السورية، حين يظهر في أوقات معينة بلمسات بالغة الحساسية والتأثير.

يتألف كونشرتو الكمان والأوركسترا من ثلاث حركات، الحركة الأولى متوسطة السرعة وهي أطول حركات الكونشرتو، تبدأ بدخول عاصف قلق إلى حد ما تحتشد فيه آلات الأوركسترا، وبعد ذروة تصاعدية يُسمع صوت الكمان يعزف أولى ثيمات الكونشرتو مقطوعة سماعي قديم من مقام زنكلاه للموسيقار والباحث السوري الحلبي الشيخ علي الدرويش 1884 – 1952، تتكرر الثيمة مرتين في البداية يكون بينهما فاصل من الموسيقى المضطربة قليلاً، وتنطلق الثيمة في المرة الثانية بتنويع جديد يشهد بعض تقطعات الكمان وانفراداتها وامتداداتها الصوتية التي قد تبدو كارتجالات أو تأملات موسيقية، تعود بعدها الكمان للثيمة من جديد حيث تعزفها مع الأوركسترا بتعدد صوتي، وهي ثيمة رائعة بلحنها ومقامها الشرقي العربي وما أضافه إليها مالك جندلي من هارموني. تنتقل الحركة بعد ذلك إلى الثيمة الثانية “ثيمة النساء” كما يسميها مالك جندلي المستوحاة من موسيقى شعبية تقليدية سورية ترتبط بطريق الحرير الذي كان يمر بحلب وتدمر في سوريا، وهي ثيمة بديعة تحتوي على جمال الميلودي والشجن والعذوبة والتعبير عن الألم، صنع مالك جندلي استقبالاً رائعاً لثيمة النساء وتمهيداً يليق بها، حيث يبدأ الأمر بترديد البوق الفرنسي للثيمة مع نبرات متقطعة متفرقة من العود بإيقاع منتظم، يردد البوق الفرنسي الثيمة لمرة واحدة فقط كنوع من التمهيد أو الإعلان عن الشيء المهم القادم “ثيمة النساء”، ومع ارتعاشة رهيفة من أوتار العود يكون الإيذان بدخول الكمان لتقوم هي بعزف ثيمة النساء التي سيستمر وجودها بشكل أو بآخر حتى نهاية الحركة، ويظهر العود في نهاية الثيمة أيضاً بجملة موسيقية حزينة شديدة الجمال.

 بعد ثيمة النساء تعود الموسيقى إلى الاضطراب والقلق وبعض الانفرادات للكمان التي تبدو غاضبة ثائرة كأنها تخوض صراعاً من نوع ما مع طرف مناوئ تمثله الأوركسترا، تخرج الموسيقى من هذا الاضطراب إلى ثيمة النساء مرة أخرى أو إلى جملة منها بتحوير مختلف، ثم يدخل الفلوت ليعزف جزءاً من الثيمة أيضاً مع امتدادات نغمية من الكمان تنتهي إلى غضب جديد، وحوار بين الكمان والأوركسترا تختتمه ذروة تصاعدية كبيرة يعقبه صوت هائل ممتد كأنه نفير يُضرب ويكون هذا في منتصف الحركة تقريباً، نستمع بعد ذلك إلى بشرف قديم قصير ثم تغوص الكمان في تأملاتها لبعض الوقت، وتعود ثيمة النساء بلون جديد أكثر حزناً ودرامية، وفي المقطع الأخير من الحركة تنطلق الكمان وحدها في وصلة موسيقية تبدو ارتجالية تنهيها بالعودة إلى ثيمة النساء أيضاً وبتلوين مختلف، يظهر العود في نهاية الحركة حيث يعزف ثيمة النساء بشجن مضاعف يعبر عن تذكر مالك جندلي لوطنه سوريا أو هو الإحساس السوري الخالص النابع من أعماق الموسيقار، تقوم الكمان ببعض التداخلات التي تقسم ثيمة النساء بصوت العود إلى قسمين، وبعد أن ينتهي العود من العزف تقول الكمان كلمتها الأخيرة وتختتم الحركة.

ببداية هادئة ذات حزن شفيف تنطلق الحركة الثانية البطيئة من خلال مقطوعة سماعي سورية قديمة تعزفها الأوركسترا أولاً ثم ترددها الكمان منفردة، مع تجاوبات من الأوركسترا في الخلفية، تمتد الثيمة ويتفرع عنها لحن ممتد بطيء نستمع بعده إلى ثيمة الأوبوا التي هي مقطوعة سماعي قديم من مقام حجاز ليوسف باشا، ثم سماعي آخر قديم تؤديه الكمان يليه سماعي آخر تؤديه الأوركسترا كلها، ثم سماعي آخر يعمل كجسر انتقالي يمهد لاجتماع العود مع الكمان، حيث تدخل نغمات العود النابضة بالشجن السوري الأصيل لترافق الكمان وتتبادل معها اللحن، ثم يحدث احتشاد موسيقي يؤدي إلى ذروة كبيرة تقود إلى عودة الثيمة الافتتاحية للحركة، وتدخل الكمان بحزن عميق كما لو أنها تبكي وتنوح وترثي الحال، فيرد عليها العود ليؤكد الحزن والألم ويتبادلان معاً نغمات النهاية. تبدأ الحركة الثالثة بعزف الكمان لمقطوعة سماعي قديم، يدخل العود بعدها ليعزف مقطوعة سماعي أخرى من مقام كار جهار لطاطيوس أفندي 1858 – 1913 بتوقيع منظم وضربات مجزأة، تُكمل الكمان ما بدأه العود وتشتبك الأوركسترا مع كل منهما. تشهد الموسيقى بعض التصاعد من الكمان والأوركسترا، تتسارع وتيرة هذا التصاعد لتلتحم ذروته الخاطفة بدخول رقصة اللونجا السورية التراثية، وهي الرقصة التي كانت تؤديها النساء في نهاية غناء الموشحات، يكون لرقصة اللونجا أثرا مشرقاً في الموسيقى حيث تبدأ الكمان بعزفها بشكل شديد الحيوية، تتجه الكمان بعد ذلك إلى الهدوء بنغم حزين ثم تذهب إلى القوة والسرعة مرة أخرى، تأخذ الكمان في الصعود وتجيش الأوركسترا بالمشاعر الهادرة، ثم تعود الكمان بنغم بطيء ممتد من الثيمة الافتتاحية يعلن النهاية مع تصاعد الأوركسترا.