مالك جندلي سوريا نشيد الأحرار

بعد مرور عامين على اندلاع الثورة السورية قام مالك جندلي بتأليف سوريا نشيد الأحرار، الذي كتب كلماته بنفسه ولحنه ووزعه أوركسترالياً وأعده للغناء بصوت المجموعة الكورالية. أثناء تأليفه لهذا النشيد لم تكن سوريا قد تحررت بعد من أبشع طغيان عرفه التاريخ الحديث، وكانت لا تزال ترزح تحت شتى صنوف الأهوال من قصف وبراميل متفجرة وكيماوي، ومجازر الإبادة الجماعية والسجون والمعتقلات الرهيبة والتعذيب الوحشي الذي يهدم جوهر الإنسانية بأكلمها، وتهجير ملايين السوريين إلى مختلف بلدان العالم ووضع آلاف الأطفال في مخيمات اللاجئين. كم كان الأمل يبدو بعيداً وقت تأليف هذا النشيد، لكن مالك جندلي كان يتمسك بالأمل رغم بعده وربما استحالته، وكان يستعد لاستقبال لحظة الحرية بنشيد يليق بسوريا العظيمة وبثورة الشعب السوري التاريخية، وقد تحققت لحظة الحرية يوم الثامن من ديسمبر/ كانون الأول من عام 2024، وتحول الحلم بأن يكون سوريا نشيد الأحرار نشيداً وطنياً للدولة السورية بعد تحررها، إلى مطالبات فعلية حيث يرونه الكثيرون النشيد الأنسب والأكثر تعبيراً عن الوطن والشعب السوري بعد عودة الروح إليه.

 

للنشيد الوطني أهميته في حياة جميع الأمم والأوطان شرقاً وغرباً، فهو اللحن الذي تردده الأفئدة وتتغنى به الألسن من الأطفال في رياضهم إلى الكبار في أعلى مراحلهم العمرية، وهو الطاقة الوطنية التي تفيض حماساً وحرارة وتعبر باستمرار عن تلك العاطفة الفطرية التي تربط المرء بوطنه. إلى جانب توثيقه لنضال الشعب السوري من أجل الحرية والكرامة والعدل وحقوق الإنسان، والتعبير بموسيقاه عن آلام الشعب السوري، كان مالك جندلي في الوقت ذاته يتطلع إلى المستقبل مؤمناً بالوطن وبالحرية التي كان موقناً بأنها على موعد مع الشعب السوري. 

نظر جندلي إلى النشيد الوطني السوري في عهد الطاغية الساقط فوجده خالياً من اسم سوريا فلا يُذكر فيه بتاتاً، ووجده كذلك يفتقر إلى كلمة الحرية فلا وجود لها على الإطلاق، فأمسك بالقلم وخط كلمات نشيد سوريا نشيد الأحرار، وابتدأه باسم سوريا واختتمه بكلمة الحرية، ثم منح الكلمات لحناً سيمفونياً رفيعاً، فيه قوة الشعور الوطني وجمال النغم والتوزيع الأوركسترالي، وحماسة الأداء الصوتي الكورالي. عندما كانت الأهوال تسقط على رؤوس الشعب السوري، كان مالك جندلي يؤلف سوريا نشيد الأحرار متشبثاً بالإيمان والأمل، رجاءً في الغد واستعداداً للمستقبل القادم، أراد جندلي أن يكون لسوريا نشيد يردد اسمها ولا يتجاهله، ويُعلي أسمى قيمة تُبنى عليها الأوطان وهي الحرية.

يتناول النشيد ويصور بالكلمات ملامح وجه الوطن ويذكر مفاخر سوريا وصفاتها وما يميزها بين الأوطان والأمم، يذكر الأرض الغنية المليئة بالخيرات في موضعين متفرقين من النشيد حين يقول: “سوريا سوريا أرض السنابل الذهبية”، وعندما يقول: “زيتون أجدادي”، فقد كانت سوريا في الأزمنة القديمة سلة الغذاء للعالم في عصر الإمبراطورية الرومانية، ويصف جندلي سوريا بـ “مهد الأمم” في إشارة إلى مآثر الحضارة السورية وكونها من أقدم البلدان والحضارات التي يربو عمرها على آلاف السنين، وعندما يقول “نور تراثها ألهم القلم” يشير ذلك إلى حقيقة أن سوريا كانت سباقة إلى الكثير من الأمور الحضارية والثقافية التي تنير التاريخ الإنساني من الكتابة واختراع الأبجدية والتدوين الموسيقي، وأقدم أنواع الغناء وأقدم المطربات أيضاً. وفي قوله “يا بلادي يا نهر العبر يروي مجدها الرُقم والحجر” إشارة إلى النقوش والكتابات الأثرية ومجد سوريا المحفور على أحجارها، وكل ما دل عليه الآثار التي تركتها الحضارة السورية القديمة. يستمر الفخر بالوطن في ثنايا كلمات النشيد فيقول: “موطن الأنبياء أبجدية وغناء”، ويقول أيضاً: “موطن الشرفاء.. مرقد الشهداء.. شمسنا في السماء.. نسرنا في العلاء” اعتزازاً بالشعب وشهداء الوطن، وتمثل هذه العبارة ذروة موسيقية وصوتية تحمل شحنة معنوية كبيرة وإيماناً بقوة الوطن ومكانته الرفيعة المستحقة مهما تكالب عليه الطغاة والمعتدون.

على الرغم من براعة الصياغة الفنية للنشيد بتفاصيله وربما بتعقيداته، إلا أنه معد لأن يغنيه الجميع، صاغه جندلي على هذا النمط لكي يكون نشيداً مختصراً يفي بكل المعاني المطلوب توفرها في الأناشيد الوطنية، ومنذ لحظاته الأولى يرغب السامع في الانضمام إلى الصوت السوري الجامع الذي يردد كلمات الوطن الحر، يحمل النشيد في طياته اليقين في تحقق الحرية في النهاية وإن بدا ذلك حلماً آنذلك، لكن ها هو الحلم قد تحقق.

على وقع موسيقى تلتهب بحرارة الثورة السورية يتدفق الغناء الصادر من قلب الجموع بعد نغمة افتتاحية تعد نموذجية لكي يفتتح بها هذا النوع من الأناشيد الوطنية، يستغرق النشيد ما يقرب من الدقيقتين، وتكون البداية مع ذروة موسيقية خاطفة لا تتجاوز بضع ثوان، نستمع فيها إلى تصاعدات النحاسيات وضربات الإيقاع، وينطلق الغناء الجماعي متصلاً في طبقة صوتية مرتفعة يشهد ارتفاعاً متزايداً عند ختام مقطع والالتحام بمقطع جديد، وعند قول “أنامل الأطفال” يتغير الأداء الصوتي وينخفض قليلاً عن النغمة السائدة ويسير بشكل أكثر بطئاً، كما لو أن النشيد يضع خطاً تحت أنامل الأطفال بما لهم من حساسية خاصة وعناية في سوريا ما بعد الطاغية، يتكرر اسم سوريا ويعتمد الغناء على المد الصوتي لنهاية اسم سوريا وكلمة حرية، اسم سوريا هو أول ما نسمع من كلمات النشيد وتكون كلمة الحرية هي آخر كلمة تُسمع من النشيد. 

في النشيد دعاء لله بالوئام وعدم الافتراق عن البلاد والأهل وزيتون الأجدا وأنامل الأطفال، فالشعب السوري ذاق مرارة الافتراق عن الوطن وويلات التهجير إلى المنافي أكثر من أي شعب آخر، فالدعاء هنا بالالتئام والاجتماع وعدم البعد عن الوطن والأهل وزيتون الأجداد، في إشارة إلى الأرض والأصل والجذور والماضي العريق، بينما تمثل أنامل الأطفال المستقبل الذي يتطلع الشعب السوري إليه، بعد ذلك يختتم النشيد بمقطعه الأخير القائل: “تراب الأحرار وطن الحرية، سوريا سوريا وطن الأحرار والحرية”.