

مالك جندلي سوهو
صدر ألبوم سوهو عام 2015 ويضم ثماني مقطوعات مؤلفة لموسيقى الحجرة. مع ثلاثي العود والبيانو والتشيللو يصحبنا الألبوم في رحلة موسيقية شديدة التنوع والثراء، تنفتح بنا على آفاق ثقافية ممتدة شرقاً وغرباً، وتغوص بنا في أعماق الشعر المنظوم بلغات مختلفة في أزمنة قديمة وحديثة في أماكن عدة من العالم، ويمكن القول إن الكلمة تقف كإلهام قوي وراء موسيقى هذا الألبوم، وكذلك المكان وفلسفته كان موحياً بفكرة الألبوم ككل ومقطوعات معينة من محتواه. بداية من عنوان الألبوم نكون مع المكان الذي هو سوهو، الحي النيويوركي الشهير الذي اختاره جندلي عنواناً لألبومه، وهو كذلك عنوان لمقطوعة موسيقية داخل الألبوم، وعلى الطرف الآخر من سوهو تقف سوريا المكان الأم قبلة الروح ومهوى الفؤاد. بين سوريا والولايات المتحدة الأمريكية تتسع وتمتد رحلة مالك جندلي الموسيقية، وتمر بمحطات ثقافية وكتابات شعراء من العالم أجمع، كما لو أن سوهو الحي المعروف بتنوعه الثقافي الهائل قد أوحى لجندلي بفكرة الألبوم، أو أنه يحاكي من خلال هذه المؤلفات الموسيقية المتنوعة تنوع سوهو، في هذه الرحلة الموسيقية لم يصطحب مالك جندلي معه سوى ثلاث آلات موسيقية هي العود والبيانو والتشيللو، وكان هو العازف على البيانو بطبيعة الحال، ورافقه عازف العود والأكاديمي السوري الأمريكي عبد الرحيم الصيادي وعازفة التشيللو الأمريكية لورا ميتكالف.
وموسيقى الحجرة كما هو معروف تؤلف لمجموعة محدودة من الآلات الموسيقية، ما يمنحها طابعاً خاصاً مختلفاً عن الموسيقى المؤلفة للمجموعات الكبيرة أو للأوركسترا الكاملة، وكذلك يعد الاستماع إلى موسيقى الحجرة تجربة فنية مختلفة يمر بها السامع، حيث يقترب كثيراً من هذه الموسيقى ويشعر بحميمية الرسائل التي تبعثها إليه، ومع ثلاثي العود والبيانو والتشيللو في ألبوم سوهو يزداد القرب بين الموسيقى والسامع، وتغمرنا الموسيقى بالجماليات والرسائل والمعاني الثقافية والفنية والوجدانية، يمثل العود الصوت العربي الشرقي الخالص في الألبوم وإن تحدث بلغة أكاديمية هارمونية، بينما يكون كل من البيانو والتشيللو في الجانب الغربي وإن نطقا بلغة موسيقية غير لغتها الأصلية، في النهاية نكون مع مزيج ساحر بين أصوات هذه الآلات الموسيقية الثلاث ولغاتها التعبيرية، وما تبعثه كل آلة من دفقات شعورية تختلف عن الآلة الأخرى، وهنا تبرز قدرة المؤلف الموسيقي على التأليف لكل آلة على حدة، والاعتماد على ثلاث آلات فقط في خلق لوحة موسيقية هائلة الألوان متنوعة في نسيجها.
يوظف الألبوم ألحاناً سورية تراثية وموشحات أندلسية ووصلات حلبية والمقامات الموسيقية العربية في هارمونية فريدة، ونستمع إلى ألوان من التقاسيم وتقنيات العزف على العود، ونغمات الربع تون وعدة مقامات كمقام كرد ومقام صبا ومقام نهواند ومقام بياتي ومقام عشاق، بينما تلتقي تقاسيم العود مع مسارات البيانو والتشيللو الهارمونية.
غريس نوتس:
المقطوعة مستلهمة من الكاتبة الإفريقية الأمريكية ريتا دوف، تحديداً من ديوانها الشعري الرابع المنشور عام 1989 الذي يحمل عنوان غريس نوتس، وغريس نوتس في الموسيقى هي النغمات التي تضاف إلى اللحن الأساسي من أجل الزخرفة والتزيين. يستغرق عزف هذه المقطوعة حوالي ست دقائق ونصف، هي مفتتح الألبوم والمدخل إلى أجوائه، تبدأ المقطوعة بنغمة من البيانو ثم يدخل العود بجملة لحنية مع فواصل البيانو، يكرر العود الجملة اللحنية لأربع مرات، في الثانية والرابعة بتنويع زائد، تهتز أوتار العود بمصاحبة البيانو في الخلفية مع ذبذبات الأوتار وتردداتها وضربات البيانو القوية إلى حد ما، يبدأ العود في تقاسيمه البديعة كما لو أنه ينشد مواله الخاص، ينفرد العود ثم يلتحم من جديد مع البيانو بنغماته المسرعة، يظهر لحن جديد للعود والبيانو التشيللو، فنكون مع ثلاثة أصوات وثلاثة أحاسيس كما لو أن كل آلة روح منفصلة تبث أسرارها ولواعجها، تعزف كل آلة خطاً ميلودياً خاصاً بها، ونسمع هذه الخطوط في نفس الوقت، يبرز صوت التشيللو في الجزء الأخير من المقطوعة ويختلف الإيقاع وتكون النهاية بطيئة.
محيط بلا شطآن:
المقطوعة مستلهمة من قصيدة عنقاء مغرب للشاعر والحكيم والفيلسوف محيي الدين ابن عربي 1165 -1240 القطب الصوفي الكبير الذي ولد في مرسية بالأندلس وكان لكتاباته الأثر الفكري الهائل في العالم بأكمله، كتب ابن عربي قصيدة عنقاء مغرب في أندلسيا عام 1200 قبل عامين من انتقاله إلى المشرق ورحلة الحج إلى مكة. تعد القصيدة أحد أعماله الخالدة المكتوبة بلغة رمزية رفيعة، وعنوان محيط بلا شطآن من التعبيرات الواردة في القصيدة، تستغرق المقطوعة ست دقائق ونصف وتكون البداية مع البيانو بنغمات انسيابية منتظمة الإيقاع، يتبدل الإيقاع مع انضمام العود الذي يؤدي جملة موسيقية جديدة، يتفاعل العود مع البيانو ويصنعان معاً ذروة متوسطة ويسيران معاً في تصاعد نغمي، ثم نستمع إلى التشيللو في نغم رصين عميق المعنى، يستمر اللحن على إيقاع منتظم مع ضربات البيانو وسحبات الأوتار الخاطفة في مقطوعة موسيقية مثيرة للتأمل وتفتح أبواب الخيال بلا نهاية.
الساقية:
تجمع هذه المقطوعة بين إلهامين، الإلهام الأول من قصيدة لجلال الدين الرومي، والإلهام الثاني من أحد الأماكن السورية ومعالمه المميزة. عاش الصوفي الكبير جلال الدين الرومي في الفترة من سنة 1207 حتى سنة 1273، وكان شيخاً وفقيهاً وقاضياً وشاعراً عظيماً ترك آثاراً أدبية خالدة لا تزال تحظى بالشعبية والتداول حت وقتنا هذا، كما تصفه مجلة تايم بأنه الشاعر الأكثر شعبية في أمريكا، وتهدف قصيدة الرومي بشكل مجازي إلى نقل القارئ والارتفاع به إلى درجات أعلى من الوعي والإدراك والاتحاد والتآخي بين البشر. من خلال هذه المقطوعة يستحضر مالك جندلي ساقية حماة أو ناعورة حماة الساحرة، التي تعد تحفة فنية وأثراً ذا جمالية بصرية هائلة، تعود نواعير حماة إلى الحقبة البيزنطية في سوريا، وقد أنشئت على نهر العاصي لتنقل الماء إلى الأرض المرتفعة. مدة المقطوعة ثلاث دقائق ونصف تقريباً، تبدأ بصوت التشيللو والعود ونستمع إلى لحن شجي من عزفهما، يدخل البيانو ليردد الجملة الأساسية بتنويع مختلف ويلعب التشيللو ما كان يردده العود في الخلفية، ثم يعود التشيللو والعود بجملة لحنية في الجزء الأخير، وتعود الثيمة الرئيسية التي نسمعها في بداية المقطوعة بصوت التشيللو مع العود، ما يعزز الشكل الدائري المستمر المتواصل.
أزهار ذابلة:
أزهار ذابلة عنوان الديوان الشعري الأول للشاعر العراقي بدر شاكر السياب 1926 – 1964 الذي يعد من رواد الشعر العربي الحديث وقصيدة التفعيلة، حدث السياب عناصر القصيدة العربية وكتب الشعر السياسي والعاطفي والاجتماعي، أصدر ديوان أزهار ذابلة عام 1047 وتوفي شاباً بعد حياة قصيرة. الثيمة الرئيسية في هذه المقطوعة مستلهمة من لحن الدلعونا الأغنية التقليدية الشهيرة في بلاد الشام، تمتد المقطوعة إلى ما يقرب من تسع دقائق وتبدأ بعزف البيانو للحن الدلعونا في إيقاع بطيء، حيث نستمع إلى الجملة الرئيسية مرتين، يدخل التشيللو ويكمل البيانو والتنويع على الدلعونا، يبدو اللحن كأنه يتناثر ويتفرق وينبثق عنه الكثير من الأفكار الموسيقية، منها تقاسيم العود والتفاعلات والتصاعدات والتأملات الموسيقية، ثم العودة إلى مطلع الدلعونا كمحطة رئيسية منها تنبع الموسيقى وإليها تعود. يعزف العود مطلع الدلعونا في منتصف المقطوعة ويؤديها ببطء وخفوت في طبقة منخفضة ثم يتسارع الإيقاع، وفي الجزء الأخير من المقطوعة نكون مع تقاسيم العود والعزف الثلاثي للحن ثم ذبذبة النهاية.
سوهو:
سوهو الحي الأمريكي الشهير الذي يحمل الألبوم اسمه، ومنه استلهم مالك جندلي فكرة الألبوم ومقطوعة سوهو، يعد هذا الحي النيويوركي في مانهاتن نموذجاً للتنوع الثقافي والفني والتقدمية والانفتاح، واستيعاب القادمين من كل مكان على اختلاف خلفياتهم الثقافية، سوهو رحلة موسيقية من سوريا إلى أمريكا، يستغرق عزف المقطوعة ما يقرب من ثلاث دقائق ويلاحظ فيها لمسات الجاز من خلال البيانو الذي يبدأ المقطوعة بنغمات إيقاعية فيها روح الجاز، مع اهتزازات أوتار العود ونغماته الرشيقة ولمسات التشيللو الساحرة. في منتصف المقطوعة يبرز صوت التشيللو الذي يتبادل التقاسيم مع العود، المقطوعة سريعة إلى حد ما وتعبر عن جوهر المكان وحمولته الثقافية الغنية.
في الوطن في مكانين:
تدور فكرة هذه المقطوعة حول ارتباط المرء بالوطن والمكان، تحديداً الانتماء الذي يمكن أن يشعر به المرء تجاه مكانين في وقت واحد حيث يمثل كل منهما الوطن بالنسبة إليه، ويحمل كل منهما مكاناً خاصاً في قلب المرء وروحه، المقطوعة مستلهمة من قصيدة لجلال الدين الرومي، ويعبر مالك جندلي عن فكرة المقطوعة كمواطن سوري ومواطن أمريكي في نفس الوقت والصلة التي تربطه بكل من المكانين. تمتد المقطوعة لما يقرب من ست دقائق وفيها نستمع إلى موسيقى مؤثرة تجلب الدمع من العين، ويشعر السامع بأن النغم ذاته يسيل من عين دامعة وروح تهفو إلى مكان بعينه وربما منقسمة بين مكانين، تبدأ المقطوعة بجملة موسيقية للبيانو والعود والتشيللو وتكون البداية هادئة بنغم رقيق ينطلق نحو ثيمة بديعة فيها الشجن والميلودية والنغم الجميل، يبكي العود في المنتصف ونستمع إلى عدة تقاسيم، ويتبادل التشيللو والعود البروز في المقدمة والتراجع إلى الخلفية.
الأم الحزينة:
الأم الحزينة تروي حكاية أم تختبر الشعور الأشد قسوة وهو شعور الأم التي تفقد طفلها، ومعاناتها في التحمل والاستمرار، والتشبث بالإيمان ومحاولة طمأنة النفس بسعادة الطفل في الدار الآخرة، المقطوعة مستوحاة من الشاعرة التشيلية غابريلا ميسترال 1889 – 1957 كانت ميسترال دبلوماسية ومعلمة ونسوية، وأول امرأة أمريكية لاتينية تحصل على جائزة نوبل في الأدب، وقد تم تتويجها عام 1945.
يستغرق عزف المقطوعة ست دقائق تقريباً وتبدأ بصوت البيانو ونغماته المنفردة ثم يلحق به التشيللو ويليه العود، تبدو المقدمة كما لو أنها أنات صادرة من قلب حزين، يؤكد التشيللو الحزن ويعمقه ويبوح بالمزيد، ويدخل العود ليمثل الإحساس الأكثر رهافة، تتصاعد الموسيقى بصوت الآلات الثلاثة وبعد هذا التصاعد تتخذ الموسيقى مساراً مختلفاً وإيقاعاً مغايراً.
قصيدة أبدية:
المقطوعة مستوحاة من الموشح الأندلسي القديم “لما بدا يتثنى” بما له من شهرة واسعة في العالم العربي، وفي سوريا على وجه الخصوص حيث يضرب فن الموشح عميقاً في ثقافتها الموسيقية، والموشح من القوالب الشعرية الغنائية التي نشأت في الأندلس، ويعد موشح لما بدا يتثنى من القطع الفنية الخالدة، وهناك من ينسب تأليف هذا الموشح إلى لسان الدين بن الخطيب، وهناك من ينسبه إلى محمد عبد الرحيم المسلوب، أما لحنه فهو في مقام نهوند تحت مقام عشاق، مقطوعة قصيدة أبدية مقطوعة جميلة وغنية بتفاصيلها، توظف التراث العربي والمقامات الشرقية بطريقة أكاديمية ضمن علم الانسجام للموسيقى الكلاسيكية. مدة المقطوعة خمس دقائق وتبدأ بصوت البيانو الذي يعزف نغمات بعيدة عن اللحن المعروف، ثم يدخل العود بتقاسيم بطيئة ويرافقه البيانو بنغم منتظم في الخلفية، يتطور النغم إلى ذروة تصاعدية، وضربة نستمع بعدها إلى اللحن المعروف لحن لما بدا يتثنى بصوت العود في المقدمة، لكن بتوزيع مختلف غير تقليدي مع بعض اللمسات الأندلسية وتقاسيم العود الحزينة تنويعاً على اللحن الأصلي.