عندما قامت الثورة السورية عام 2011 وانتفض الشعب السوري وهبّ في وجه الطغيان والديكتاتورية، وطالب سلمياً بحقوقه الإنسانية العادلة المشروعة في وطنه، ونادى بالحرية بعد عقود طويلة من القمع والقهر والاستبداد، انفتحت عليه أبواب الجحيم في الداخل السوري، وتوالت عليه المحن من مجازر رهيبة وإبادة جماعية بالكيماوي والبراميل المتفجرة وشتى صنوف الأهوال، بالإضافة إلى السجون والمعتقلات والتعذيب والتنكيل الذي استشرى وانتشر في كل مكان على أيدي شبيحة الديكتاتور. لكن المعاناة لم تقتصر على من ظلوا داخل سوريا، فقد انفتحت كذلك أبواب المنافي على مصراعيها ليجد الشعب السوري نفسه أمام واحدة من أكبر حركات التهجير في التاريخ، حيث نزحت أعداد هائلة من السوريين فراراً من انتقام دموي مجنون ومطاردة ديكتاتور لشعب طالب بحريته وحقوقه في وطنه. ولن تُمحى من الذاكرة القريبة أو البعيدة صور الشعب السوري في خضم البحار وعلى شواطئ العالم أحياء وموتى، وفي الطرقات الباردة بين حدود الدول الأوروبية، وفي مخيمات اللجوء في الدول المجاورة لسوريا.
عرف السوري المنفى إذن واضطر إلى التعامل معه، وإن كان قد عرف الهجرة والسفر والترحال من قبل سعياً في مختلف بلاد الأرض لأسباب مختلفة كتحصيل العلم والرزق مثلاً، فإنه بعد ثورة 2011 اختبر المنفى بأقسى معانيه، فأي أرض غير الوطن يذهب إليها المرء قسراً دون اختياره الحر، اضطراراً وفراراً من الظلم وجحيم الديكتاتورية وكل ما يهدد حياة الإنسان ويحول الوطن الأم إلى مكان غير آمن يمثل خطراً على أهله، أي أرض أخرى في تلك الحالة تصير منفى، وقد ذهب السوريون إلى المنافي جبراً وقسراً، حتى من كان مهاجراً من قبل لسبب أو لآخر تحول مهره إلى منفى، وتحول الوطن إلى مكان لا يمكن العودة إليه بسهولة على الأقل في الوقت الحالي وفي ظل الظروف الحالية.
عندما يؤلف الموسيقار مالك جندلي مقطوعة موسيقية تتناول فكرة الوجود السوري في المنفى، فإنه يعبر عن أمر يختبره بشكل شخصي هو وعائلته، ويختبره بشكل عام أيضاً كمواطن سوري وكفنان ملتزم بقضايا وطنه وأهله من السوريين، وكناشط لا ينفصل بفنه عن حقوق الإنسان والقضايا العادلة ومآسي اللاجئين، خصوصاً الأطفال الذين زارهم بنفسه في مخيمات اللجوء وألهموه عندما كانوا يغنون ذات ليلة، رغم كل ما يمرون به من ظروف قاسية تغتال طفولتهم، لكنهم كانوا وسط كل هذا الحطام يتشبثون بالحياة، وما توفر لهم من قليل العيش والتعليم، وكانوا يمارسون ما يمكن من الفنون بشكل فطري غريزي، يدل على أن الفن احتياج حيوي وأساس من أساسيات الحياة وليس من كمالياتها.
أعجب مالك جندلي بقوة الحياة الكامنة في أعماق هؤلاء الأطفال واستحضر في مخيلته العنقاء أو الفينيق، ذلك الطائر الأسطوري الهائل بجناحيه الكبيرين الذي يحترق ويحيا من جديد وينبعث من الرماد محلقاً بقوة كما لو أنه لم يمت ولم يحترق. من هنا أتت مقطوعة العنقاء في المنفى التي تنظر بعين فلسفية متأملة إلى حقيقة وجود أعداد كبيرة من السوريين في المنافي، لكن هذه العين تراهم كالعنقاء التي لا تموت وإن احترقت وصارت رماداً ودائماً تنبعث من جديد، ينظر مالك جندلي إلى السوريين في المنافي وهم يجمعون شتات أمرهم ويتخطون جراحهم الأليمة العميقة، ويلملمون أطراف قوتهم ويستعدون للنهوض من جديد، والتحليق عالياً بأجنحة ضخمة قوية تشق طريق العودة نحو الوطن السوري.
تتميز هذه المقطوعة الموسيقية بمهارة بناء الصورة الموسيقية، وعلى مدى سبع دقائق تقريباً يدخل المستمع إلى ذلك الخيال وتأثيراته النغمية بهارمونيتها الدقيقة المحكمة، وحسن توظيف الآلات الموسيقية والإيقاع الموحي بدرجة كبيرة وانتظام الخطوط الميلودية. في مقطوعة لم يشارك فيها البيانو يمكن القول إن الموسيقار اعتمد على أوركسترا متوسطة الحجم إلى حد ما أو ليست أوركسترا كبيرة للغاية، ووظف بشكل أساسي مجموعة الوتريات بتشكيلها المعتاد والهوائيات الخشبية والنحاسيات.
مع بداية المقطوعة نستمع إلى صوت الأوبوا، التي تعزف اللحن الرئيسي المكون من جملة موسيقية تتكرر لمرة ثانية بتنويع مختلف قليلاً، وبتنويع أكبر في المرة الثالثة يذهب بنا نحو الأمام في عمق المقطوعة ويمتد بانضمام الوتريات والنحاسيات. لآلة الأوبوا حضورها البارز في المقطوعة ولصوتها المنفرد الأثر البليغ، وكذلك لكل من الفلوت والبوق الفرنسي دورهما في صنع تلك النبضات الصوتية، والتقطعات المتفرقة المنتظمة في إيقاع بطيء هادئ قد يعبر عن محاولات النهوض، وقد يشعر السامع في بعض اللحظات بالهدوء الشديد إلى درجة أن يظن أن الصمت هو الغالب، عدا تلك النبضات الموسيقية نظراً لمدى دقتها وقوة وعمق تأثيرها وقدرتها على الاستحواذ على أذن السامع وإحساسه ومخيلته، كما أنها تشد وتجذب انتباهه وتجعله في حالة ترقب لما هو قادم وما تؤدي إليه تلك النبضات، وقد يشعر السامع أيضاً بأنها خط الحياة الذي لا ينقطع ويظل ممتداً حتى في أوقات الرعب والخطر، أو أنها هي الحياة التي لا تموت،وقد يتخيل السامع مجموعة من الطيور تطير وتحلق وتطلق غناءها الجماعي في عنان السماء.
ينتقل مالك جندلي بسامعه في هذه المقطوعة بين المشاعر والأفكار بأسلوب متميز في الكتابة الموسيقية، والتلوين الأوركسترالي الذي ابتعد فيه عن التكثيف والحشد الكبير لمجموعات الآلات الموسيقية، وركز بدقة على وصف وتصوير الحركة والحياة التي تدب من جديد في العنقاء المنفية بحثاً عن الحرية والأمان، مع براعة اللمسات الإيحائية وخلق الصورة بواسطة الأنغام، كما لو أن الموسيقى تعلو في الفضاء آخذة في السمو والصعود والاتساع، تنمو الموسيقى تدريجياً بتوازن قوي وبتآلف النغمات المتقطعة، التي تمثل قوة دفع كامنة تتحرك بالشكل الإيقاعي في مساره، وهذا الثقل الذي يمثل صعوبة الحياة في المنفى، ومحاولات بناء ميلوديا جديدة وحياة جديدة.
العنقاء في المنفى موسيقى تؤثر في السامع وتثير مخيلته وأفكاره، بكل ما اشتملت عليه من صور وجماليات وإيمان عميق بقوة الوجود السوري.