كونشرتو البيانو والأوركسترا

تم تأليف كونشرتو البيانو والأوركسترا رقم 1 عام 2015، وسُجل في موسكو بأداء الأوركسترا الروسية الفيلهارمونية تحت قيادة المايسترو سيرجي كوندراشيف عام 2016. هذا العمل هو أول مؤلفات مالك جندلي للبيانو في قالب الكونشرتو، وقد وضع فيه كل ما يحبه حول هذا النوع الموسيقي، وكل ما اكتسبه من تشايكوفسكي وبروكوفييف وبيلا بارتوك وإبداعاتهم العظيمة لكونشرتو البيانو. 

يحمل العمل ملامح من موسيقى الحقبة الرومانتيكية وموسيقى القرن العشرين رغم ثيماته النابعة من الموسيقى السورية القديمة، وتوظيف مجموعة من المقامات الشرقية والألحان التراثية السورية. يهدف هذا العمل كبقية مؤلفات مالك جندلي إلى الحفاظ على الثقافة السورية، وكان تأليفه متزامناً مع قصف المدن السورية وقتل الأطفال وتدمير التراث السوري، حرصاً على ثقافة بلاده التي يتم تدميرها عمداً من الديكتاتور وأعداء الحياة والحرية، حيث تكون الموسيقى فعل مقاومة وحفظ لثقافة الوطن.

يتكون الكونشرتو من ثلاث حركات ويستغرق عزفه ما يقرب من أربعين دقيقة

الحركة الأولى:

تفتتح الحركة الأولى معتدلة السرعة المؤلفة في قالب السوناتا بمقدمة درامية مهيبة تتسم بالجلال تُعزف مرتين، ثم يسود الهدوء الذي يمهد لدخول البيانو وعزفه لنفس الافتتاحية بما يشبه تقاسيم الموال، حيث استلهم جندلي ذلك اللون الموسيقي الغنائي أحد أشهر ألوان الغناء في في العالم العربي، والذي يحظى بشعبية كبيرة في حمص وحماة وحلب. وهو من الفنون التي تعتمد على الارتجال إلى حد بعيد وتمديد الحروف وإطالة نهايات المقاطع المغناة. تنضم الوتريات إلى اللحن ونستمع إلى نغمة تمهد لدخول الثيمة الراقصة، وبعد أن تُعزف هذه الثيمة مرتين يتناثر اللحن ويسود الهدوء ثم يظهر البيانو ليعزف لحناً بطيئاً خافتاً وتدخل الأوبرا لتعزز اللحن، فنستمع إلى حطين موسيقيين معاً، خط البيانو وخط الأوركسترا في الخلفية الذي يتفاعل ويتصاعد، ينتهي هذا التفاعل بعودة الثيمة الراقصة تعزفها الوتريات والفلوت مع ضربات البيانو المتسارعة، تتفرق الثيمة على مفاتيح البيانو،يلي ذلك توتر وتفاعل مع ذبذبات صوت البيانو وتصاعد النحاسيات، لنكون مع ذروة كبيرة تعود بالثيمة الراقصة مع بروز صوت الآلات النحاسية، ثم نستمع إلى صوت البيانو الخافت تلعب نفس الثيمة في هدوء. يتصاعد صوت البيانو تدريجياً في لحن يبدو كأنه يسير بشكل ارتجالي ينتقل من ذروة إلى ذروة أخرى إلى ذروة أكبر، لتعود الثيمة الافتتاحية بشكل مختلف مع ذروة هائلة تؤدي إلى الختام. يقدم البيانو الثيمة الحيوية الراقصة المستمدة من سماعي قديم في مقام بسته نكار للموسيقار السوري علي الدرويش، وثيمة أخرى شاعرية غنائية مستمدة من سماعي قديم في مقام شاهناز، وتتقلب الموسيقى بين الثيمتين كالانتقال بين الحزن والفرح.

الحركة الثانية:

هي الحركة البطيئة في الكونشرتو ذات الأجواء الحالمة المتأملة الحزينة إلى حد ما، تتكون الحركة من ثلاثة أقسام وتستمد ثيمتها الرئيسية من سماعي قديم في مقام نكريز. تبدأ الحركة بتمهل بجملة موسيقية تتكرر عدة مرات، ثم ينساب صوت البيانو متدفقاً وهو يعزف ثيمة سماعي يرددها الكلارينيت من بعده بتعبيراته الخاصة، تتسارع أنغام البيانو تمهيداً لتصاعد ذروة ممتدة يعقبها هدوء، تتلون الموسيقى بأنغام البيانو الرشيقة وصوت الأوركسترا القوي. في الجزء الأوسط من الحركة نكون مع أجواء الليليات، تأثراً بلليليات بارتوك، وخصوصاً الحركة البطيئة من كونشرتو البيانو الثالث للموسيقار المجري بيلا بارتوك، نستمع إلى صوت الفلوت وعزفه المنفرد الجميل الذي يتداخل مع نغمات منتظمة متراتبة، يخلق الفلوت أجواء الليل والشجن والتأمل، ويضفي طابعاً شرقياً ساحراً بسبب قرب صوته من صوت الناي وما يؤديه مما يشبه التقاسيم. بعد ذلك نستمع إلى التشيللو بنغمه العميق الحزين في لحن مؤثر مستمد من سماعي قديم في مقام عجم لسيساك أفندي. في الجزء الأخير من الحركة نكون مع كادنزا البيانو حيث ينفرد بارتجالاته الهادئة البطيئة في البداية ثم تتحول من بعد إلى قوة هائلة وتدفق موسيقي كبير يجيش بالمشاعر مع بروز صوت التام تام وصوت الفلوت أيضاً، يعود البيانو بالثيمة الرئيسية ببطء وبشكل متفرق، يهمس البيانو بشكل حالم، ثم تتصاعد الموسيقى وتردد أصداء ضربة الختام.

الحركة الثالثة:

تبدأ الحركة الثالثة بمجموعة من الجمل الموسيقية المتنوعة المتداخلة، ونستمع إلى الثيمة الموسيقية المستمدة من المقطوعة السورية الشعبية الشهيرة “رقصة ستي”، وهي موسيقى جميلة تفيض بالحيوية ذات إيقاع سريع مستمر متواتر، تتلاشى الرقصة وتهدأ الموسيقى لنكون مع ثيمة أخرى ولحن آخر مستمد من لحن شعبي سوري غير معروف مبدعه على وجه التحديد، لكنه عادة ما يستخدمه الناس ويضعون عليه كلماتهم الخاصة لتشجيع فرقهم الرياضية المفضلة. تعود الثيمة الرئيسية بتبدلات وتطورات تبلغ ذروتها عند وقفة صارمة تمهد لدخول الأوركسترا كاملة، وارتفاع أنغامها بشكل مهيب على طريقة تشايكوفسكي ورحمانينوف. نستمع هنا إلى لحن سوري قديم آخر، عبارة عن سماعي في مقام بياتي، في الجزء الأخير من الحركة نعود إلى الثيمة الثانية التي تسير متسارعة نحو وقفة درامية ونغمة الختام. يجمع جندلي بين عناصر السوناتا والروندو ويوظف الموسيقى التقليدية الشعبية لبلاده، ويساهم بذلك في بناء المدرسة القومية السورية في الموسيقى، كما فعل بارتوك وخاتشاتوريان في موسيقى بلادهما على سبيل المثال. 

في كونشرتو مؤلف للبيانو تتيح موسيقى جندلي للعازف المنفرد أن يُظهر مهاراته وقدراته في العزف، ومالك جندلي هنا هو المؤلف والعازف، في هذا العمل تلتقي الموسيقى السورية التقليدية والشعبية والمقامات الشرقية بالموسيقى السيمفونية في قالب غربي كلاسيكي هو قالب الكونشرتو، وتندمج الألحان مع بعضها إندماجاً تاماً في تآلفات رائعة. تتعدد الجماليات في هذا العمل بداية من الثيمة الموسيقية والتوافق الهارموني وجمال عرض الأفكار، وروعة الألوان والتراكيب الفنية والتأصيل والتجديد في الوقت ذاته، والتنوع الكبير في الألحان والمقامات في لغة موسيقية معبرة تجمع بين أصالة الموسيقى السورية والطابع السيمفوني العالمي. من لحن إلى لحن تنساب الأنغام من ينابيع الموسيقى السورية والمقامات الشرقية الأصيلة، والتلوين الأوركسترالي الرائع والانطلاق المتحرر في رحلة بين الشرق والغرب.