ألّف مالك جندلي سيمفونيته الرابعة سنة 2020، وتم تسجيلها بواسطة أوركسترا راديو فيينا السيمفوني بقيادة المايسترو مارين ألسوب سنة 2021، صدرت السيمفونية الرابعة ضمن ألبوم وردة الصحراء الذي يضم إلى جانب هذا العمل السيمفونية السادسة المعروفة باسم سيمفونية وردة الصحراء. لهذه السيمفونية فرادتها وطابعها الموسيقي الخاص، فهي سيمفونية مؤلفة لأوركسترا الوتريات، أي أن الموسيقار اعتمد على عائلة أو مجموعة واحدة من الآلات الموسيقية هي عائلة الوتريات التي تتكون من الكمان والفيولا والتشيللو والكونتراباص، وعن ذلك يقول مالك جندلي إنه كان مهتماً بفكرة التأليف للوتريات فقط، ومحاولة الحصول على كل ألوان الأوركسترا من خلال مجموعة آلات موسيقية تنتمي إلى عائلة واحدة، تبدو ظاهرياً كما لو أنها تقدم نفس النبرة ونفس الصوت. لكن جندلي أظهر من خلال هذه السيمفونية مدى قدرة الوتريات على صنع لوحة موسيقية هائلة متعددة الألوان، فالمعروف أن السيمفونيات عادة تعتمد على الأوركسترا الكبيرة التي تضم مجموعات مختلفة من الآلات الموسيقية، كالوتريات والهوائيات الخشبية، والنحاسيات وآلات الإيقاع الكثيرة والمتنوعة، والهارب والبيانو والهاربسيكورد والأورغن في بعض الأحيان، لتجتمع هذه الآلات كلها وتتشابك وتغني معاً في انسجام كل بصوته الفريد المميز، وفي السيمفونية تلعب كل آلة أو مجموعة من الآلات دوراً مرسوماً، ويخصها المؤلف الموسيقي بالتأثيرات والمشاعر والأفكار التي يرغب في التعبير عنها، ويكون أمام المؤلف حينئذ عدداً كبيراً ومتنوعاً من الآلات الموسيقية التي يختار من بينها ويوظفها كما يشاء كل في الدور المطلوب والمحدد بعناية. وعندما يقوم الموسيقار بتأليف سيمفونية كاملة لمجموعة معينة من الآلات الموسيقية دون غيرها كما فعل مالك جندلي في سيمفونيته الرابعة المؤلفة للوتريات، يكون عليه أن يغوص عميقاً وأن يبحث طويلاً في قدرات هذه الآلات، ويستخلص منها كل ما يحقق الشروط الفنية والجمالية للسيمفونية كقالب موسيقي، وأن يقدم إلى السامع تلويناً صوتياً بديعاً وثراء في الألحان والنغمات وقوة الأفكار الموسيقية، وهو ما تحقق في هذا العمل الموسيقي الرفيع.
السيمفونية الرابعة مؤلفة في مقام D وتتكون من ثلاث حركات فقط على غرار سيمفونيات القرن الثامن عشر، قبل أن يكون الأمر السائد هو أن تتكون السيمفونية من أربع حركات، فلا يوجد اسكيرتسو في هذه السيمفونية لكن عناصر الاسكيرتسو منسوجة ببراعة في الحركتين الثانية والثالثة، وهكذا يقوم مالك جندلي بالتجديد من خلال العودة إلى القديم ليضع السامع في تجربة مختلفة، ويجعله يتعرف على الشكل القديم للسيمفونية المكونة من ثلاث حركات ويكتشف جماليات السيمفونية المؤلفة للوتريات فقط، ويستمتع بموسيقى مالك جندلي الرائعة وبما يقوم به من حفظ التراث الموسيقي السوري والعربي، وتوظيف المقامات الشرقية ضمن النظرية الهارمونية للموسيقى الكلاسيكية.
يقدم مالك جندلي في سيمفونيته ثيمات وألحان نابعة من موسيقى سورية وعربية قديمة، لأبي خليل القباني 1835- 1902 الذي يعد أباً للموسيقى المسرحية السورية والعربية، واسكندر شلفون 1877 -1934 الموسيقار المصري من أصول شامية لبنانية، وكذلك الموسيقار العثماني عثمان بيه 1816 – 1885. ويوظف جندلي في السيمفونية الرابعة مقامات شرقية منها مقام عراق ومقام راست، وقوالب موسيقية وغنائية تراثية كالبشرف والسماعي والموشح والوصلة والنوبة الأندلسية.
يقول مالك جندلي عن السيمفونية الرابعة إنه كان لديه أفكار عن الحرب وكيف يكون الأمر عندما تندلع الحرب في المدينة، ويقول أيضاً إنه كان يقصد من خلال موسيقاه خلق شعور غريب على حافة العبث وتصوير الحياة العادية المألوفة لكن مع الحرب والموت القريبين جداً، وهذا ما يلاحظه ويشعر به السامع بالفعل أثناء إصغائه لهذا العمل، حيث صوت الحياة الجميل المنساب بنعومة، وصوت الحرب وخلق التأثيرات الموسيقية التي تعبر عن الحرب والأسلحة والمدافع الرشاشة وإطلاق النار والغارات الجوية وصفارات الإنذار. هذا التناقض والتغاير في الأجواء والمزاج الموسيقي والشعور العام، صنعه مالك جندلي بمهارة ليستشعر السامع ذلك الصراع بين الحياة والموت، بين الخير والشر، بين السلام والخراب، يستمتع المتلقي بهذا التلوين الموسيقي الهائل المصنوع بالاعتماد على الوتريات فقط، ويحظى بجرعة جمالية كبيرة من هذه الآلات الموسيقية وأصواتها المتنوعة من الأصوات الرفيعة الحادة إلى الأصوات الرخيمة الغليظة، وتقنيات العزف المختلفة إما بواسطة سحب الأقواس على الأوتار، أو بواسطة النبر بالأصابع على الأوتار مباشرة، لخلق التأثيرات والإيحاءات المطلوبة، سواء كانت تأثيرات إيقاعية أو ايحاءات بالحرب على سبيل المثال والعنف وإطلاق الرصاص، والانتقال الرائع من آلة إلى أخرى حين تلعب الفيولا لحناً على سبيل المثال، ثم يردد التشيللو نفس اللحن لكن بأداء صوتي مختلف وكذلك الكمان والكونتراباص، ويستمتع أيضاً بذلك النسيج الصوتي الغني الناتج عن سماع تنويعات لحنية من نغمة واحدة معاً في نفس الوقت، والانفرادات الجميلة للآلات والكونترميلودي والحركات العكسية والتجاورات الهارمونية.
تتكون السيمفونية الرابعة من ثلاث حركات تسير على هذا النحو (سريع – بطيء – سريع)، الحركة الأولى المؤلفة في قالب السوناتا الثيمة الرئيسية فيها مستوحاة من موشح طال ليلي لأبي خليل القباني، حيث تبدأ الحركة بلحن جميل منساب تتداخل معه تقطعات صوتية على الوتريات كأنها طلقات الرصاص، وتوحي هذه التقطعات الصوتية بهجوم الحرب على الحياة وما تلقيه عليها من ظلالها الحالكة القاتمة، لكن اللحن الجميل يستمر في انسيابه ما يعني أن الحياة تقاوم، يشتعل الصراع بين كل منهما ويحتدم إلى أن ينتهي بالصمت، لنستمع بعد ذلك إلى ثيمة طال ليلي للقباني. في بداية الحركة نستمع إلى دخول موسيقي بلحن جميل، نسمع معه في نفس الوقت ضربات تشيع جواً من التوتر من خلال سحبات الأقواس السريعة المتقطعة على الأوتار، تُعزف الثيمة ويتم التنويع عليها، وتتفاعل مع ألحان أخرى وتتطور من خلال ذلك التفاعل، حيث تعود ضربات البداية الموحية بالحرب وطلقات الرصاص، وتتشابك مع الثيمة كأنها تطارد الجمال والحياة، يدخل الكمان المنفرد ونستمع إلى الثيمة الثانية في الحركة، المستلهمة من بشرف قديم من المحفوظ من التراث السوري، وهو لموسيقار سوري قديم غير معروف.
الحركة الثانية هي الحركة البطيئة في السيمفونية، لكنها لا تخلو من بعض التدخلات الغاضبة والأفكار الموسيقية التي لا تهدأ، نستمع في هذه الحركة إلى ثيمة جميلة مستوحاة من نوبة أندلسية قديمة من تونس، ونستمتع بصوت الكمان الرائع، ونشعر هنا أيضاً في الحركة الثانية بذلك الصراع بين الحرب والحياة، وتعود الثيمة الرئيسية مرة أخرى متقطعة بتداخلات متفرقة، ونستمع إلى النبر بالأصابع مباشرة على أوتار الكمان دون الأقواس، لخلق أثر صوتي يوحي بأنه دقات الساعة. وفي الحركة الثالثة السريعة نستمتع بتوظيف بعض الثيمات والمقامات التراثية، والجسور الانتقالية الرائعة، والانفرادات المعقدة الماهرة للكمان والفيولا والتشيللو، هنا أيضاً يخلق جندلي إحساس العبث والاقتراب من الحرب والموت، الثيمة الرئيسية في الحركة مستلهمة من ألحان سورية قديمة، الأول سماعي في مقام راست لاسكندر شلفون، والثاني من بشرف YEGÂH للموسيقار العثماني عثمان بيه، تبدأ الحركة بداية سريعة بنغمات متلاحقة، مع النبر بالأصابع على الأوتار فيشعر السامع كما لو أنها ضربات إيقاعية، في الجزء الأخير من الحركة يحدث تصاعد يعقبه هدوء، ثم تعود نغمات البداية مع ضربة الختام.
بين التراث الموسيقي السوري والعربي والمقامات الشرقية، وعالم الموسيقى السيمفونية وعلم الهارموني والنظريات الأكاديمية في التأليف الموسيقي، والتجديد والتجريب وخوض المغامرات الفنية المثيرة الممتعة، والغوص في إمكانيات مجموعة واحدة من الآلات الموسيقية والبحث في قدراتها واستخلاص أكبر طاقة ممكنة منها وأكبر لوحة متنوعة لونياً، وتأليف سيمفونية كاملة من خلالها فقط بدون أن يشعر السامع بمحدودية هذه المجموعة من الآلات، أو أنه يفتقد أياً من الآلات الموسيقية الأخرى، بل إنه عند لحظات معينة قد ينسى أنه يستمع إلى سيمفونية للوتريات فقط، ويجد أنه يشعر بوجود ضربات الإيقاع والتصاعدات والتأثيرات القوية للنحاسيات وغيرها، وفي الوقت نفسه يستمتع بصوت الوتريات وتلويناتها البديعة، من كل هذا أتت السيمفونية الرابعة لمالك جندلي كتجربة موسيقية رائعة، تحقق للمتلقي سماعاً مختلفاً ورحلة فريدة في قالب السيمفونية واكتشافاً جمالياً للسيمفونية المؤلفة للوتريات فقط.