السيمفونية رقم 3 هيرايث
الوطن الذي لا يمكن الرجوع إليه

تم تسجيل السيمفونية رقم 3 هيرايث عام 2016 بواسطة أوركسترا زغرب الفيلهارموني، السيمفونية مؤلفة في سلم B الصغير وتتكون من خمس حركات ويستغرق عزفها ما يقرب من أربعين دقيقة.

اختار مالك جندلي لهذه السيمفونية عنوان هيرايث، تلك المفردة الويلزية التي تحمل معاني الحنين إلى الوطن والاشتياق إليه والتألم على فراقه، وفي الوقت نفسه عدم القدرة على العودة إليه والارتماء في أحضانه، ما يجعل الأمر مختلفاً عن الحنين العادي المتعارف عليه الذي يشعر به كل من افترق عن وطنه، هكذا يدلنا عنوان السيمفونية على أنها تتناول ذلك الألم العميق في داخل كل سوري انتزع من بلاده، وانتزعت بلاده منه عنوة، فقد تعرض الشعب السوري لأكبر عملية تهجير في التاريخ المعاصر، بالتوازي مع ما شهده الوطن من مجازر وإبادة جماعية وعنف وتعذيب واستبداد مروع لا مثيل له.

كبقية مؤلفات مالك جندلي تعمل سيمفونية هيرايث على توظيف المقامات الشرقية والألحان العربية من التراث الموسيقي السوري، وتقديمها بطريقة أكاديمية ضمن نظرية علم الهارموني للموسيقى السيمفونية الأوركسترالية، وذلك بهدف صون التراث الموسيقي السوري وتقديمه إلى العالم بلغة موسيقية رفيعة، اتساقاً مع دعوة اليونسكو للحفاظ على تراث سوريا الثقافي العريق وحمايته في الوقت الذي يتعرض فيه للمحو والاندثار والتدمير الممنهج. هنا في هذا العمل يركز مالك جندلي على التراث الحلبي على وجه الخصوص، واستلهام ألحان سورية تقليدية قديمة من طريق الحرير، فعندما كان يؤلف سيمفونية هيرايث، كانت مدينة حلب السورية تتعرض لهجوم دموي شنيع ويتساقط الجحيم فوق أرضها، تلك المدينة العريقة الجميلة التي تعد أقدم مدينة مأهولة في العالم، وكانت حضارتها التي عرفت اختراع الأبجدية والتدوين الموسيقي والاكتشافات العلمية المختلفة تتعرض لتدمير رهيب وكانت ثقافتها الأصلية تُغتال على مرأى ومسمع من العالم.

هيرايث عمل موسيقي يجسد مأساة الشعب السوري في هجرته القسرية عن الوطن، وتعبر الحركة الأولى والأخيرة من السيمفونية عن آلام شخصية بشكل خاص، بموسيقى ذاتية تجيش بالكثير من الانفعالات والمشاعر، من التدفقات الهادئة إلى لحظات التصعيد الدرامي والذروات الهائلة، وفي هذا العمل تتجلى قدرة الموسيقى على تصوير الحزن والحنين إلى الوطن، وفي نفس الوقت قدرة الموسيقى على حفظ الوطن وذاكرته.

تبدأ الحركة الأولى البطيئة بداية هادئة خافتة في أصوات القرار، ثم نستمع إلى أول ثيمة في السيمفونية بتنويع بطيء للغاية، كما لو أن الموسيقى متعبة منهكة الروح، تتكون هذه الثيمة التي تبدو مألوفة للأذن العربية بحزنها الظاهر وشجنها العميق من جملة موسيقية تُعزف لأربع مرات متتالية، كما لو أن آلات الأوركسترا تهمهم رثاءً وبكاءً خصوصاً النحاسيات النفخية والوتريات الغليظة، تذهب الثيمة في مسارها وتمتد وترافقها ألحان أخرى، ثم تودعنا الثيمة الرئيسية مؤقتاً وتذهب بنا السيمفونية نحو تصاعد ليس هائلاً، تتلاحم فيه الوتريات مع دقات الإكسليفون وضربات النحاسيات. من كل هذا تخرج الكمان المنفردة التي تعزف سولو يمكن وصفه بمرثية الحضارة السورية يعبر عن صوت الحزن الفردي الشخصي والألم الذاتي وأوجاع الحنين والتوق إلى الوطن، كنحيب الإنسان السوري المهجر من أرضه قسراً، تعزف الكمان عزفاً بطيئاً وترد عليها بقية الآلات أيضاً ببطء وهدوء ينتهيان إلى الصمت وختام الحركة الأولى، تبدو الكمان في هذه الثيمة الجنائزية كروح متألمة تبث آلامها وأحزانها وشكاواها وتبكي وتطلق أناتها.

تبدأ الحركة الثانية سريعة مضطربة بأنغام غاضبة مشتعلة وضربات الإيقاع وعزف الوتريات والنحاسيات النفخية، وسط هذا الخضم الصاخب نستمع إلى ثيمة تبدو شرقية مع صوت الكلارينيت والتوبا، وتتفاعل ثيمة البداية مع الثيمة الأخرى. الحركة مؤلفة في قالب السوناتا بأسلوب مسرحي كأسلوب مالر وشوستاكوفيتش لكن بشكل مركز ومكثف يترجم صوراً قوية من المشاعر من خلال أصوات الموسيقى. في ثورة موسيقية عارمة تلعب ضربات آلات الإيقاع نادرة الاستخدام دوراً كبيراً، وهناك حضور للإكسليفون أيضاً، بينما يكون القسم الأخير من الحركة هادئاً.

الحركة الثالثة مؤلفة في قالب الإسكيرتسو وتأخذ شكل الروندو، تبدأ بلحن منغم جميل ذي روح شرقية، يتنوع اللحن ويتطور ويؤدي إلى ذروة خاطفة، يتردد صوت الوتريات واثقاً مع دخول بقية آلات الأوركسترا واشتباكها في اللحن، تقلبات وتغيرات مستمرة في المقامات، تؤدي الهوائيات الخشبية لحناً رشيقاً، مع عودة من حين لآخر إلى الثيمة الرئيسية للحركة، وتختتم الحركة بلحن البداية ما يؤكد الشكل الدائري الذي اعتمده المؤلف الموسيقي.

الحركة الخامسة تمثل الذروة الشاعرية في السيمفونية وتحتوي على مجموعة من الألحان والثيمات المجمعة، تبدأ الحركة بثيمة شرقية غنية بالتفاصيل، وتنتقل إلى لحن آخر جميل وتعزف الكمان المنفردة لحناً حزيناً، ومن الهدوء والنبر بالأصابع على أوتار الآلات الوترية، وإلى السرعة والاضطراب ثم العودة إلى اللحن الأساسي، كما تعود ثيمة المرثية للكمان من الحركة الأولى لتعزف بنغمات هادئة مرتعشة لتتصل نهاية السيمفونية بدايتها، تنبع فكرة الحركة من لحظة غروب الشمس في أحد الأيام وترتبط كل ثيمة بذكرى تلك اللحظة.