بدأ مالك جندلي في تأليف السيمفونية الخامسة عام 2019، ثم قام بتسجيلها في فيينا عام 2021 مع أوركسترا راديو فيينا السيمفوني بقيادة المايسترو مارين ألسوب. تتكون السيمفونية من أربع حركات ويستغرق عزفها 24 دقيقة. العرض الأول للسيمفونية في الثاني من مايو/ أيار 2025 في كندا، بأداء أوركسترا ويندزور السيمفوني وقيادة المايسترو روبرت فرانز في مسرح الكابيتول.
تأتي السيمفونية الخامسة في إطار ما يقوم به مالك جندلي من توظيف المقامات الشرقية والألحان التراثية السورية، بطريقة أكاديمية ضمن قوالب ونظريات علم الهارموني للموسيقى الكلاسيكية، وما يهدف إليه من حفظ التراث السوري والعربي وتقديمه إلى العالم بلغة الموسيقى الرفيعة. كما يهدف هذا العمل أيضاً إلى خلق توازن استراتيجي مع الغرب، ووضع الإبداع العربي على خريطة الإبداع العالمي وتأكيد حضور المبدع العربي كمشارك وفاعل في رسم لوحة الموسيقى السيمفونية في العالم، فأن تقوم أكثر من أوركسترا عالمية في أوروبا وأمريكا وكندا بعزف مؤلفات مالك جندلي الموسيقية، فهذا أمر يؤكد وجود الفنان العربي المسلم ويعكس صورة مغايرة لما يتم ترويجه عنا كعرب ومسلمين من انفصال عن الفنون وتأخر عن أسباب الحضارة، هذا الحضور قد لا يكون سهلاً في كثير من الأحيان ولا يخلو من صعوبات، وقد لا يرحب الغرب طوال الوقت بظهور إبداع العربي المسلم، خاصة إذا كان هذا الإبداع ينافس بقوة في أرقى وأرفع الألوان الموسيقية، ما يضاعف مهمة المبدع في تلك الحالة، فيكون عليه رفع طاقاته الإبداعية إلى أقصى درجة من أجل تحقيق الخلق الجمالي أولاً، ثم انتزاع الاعتراف والتقدير عن جدارة واستحقاق. وهذا ما يهدف إليه مالك جندلي من خلال أعماله التي يستمع إليها الغرب فيجد إبداعاً حديثاً وفق قواعد الموسيقى السيمفونية الكلاسيكية الراسخة، ويتعرف من خلالها أيضاً على المقامات الشرقية والموسيقى العربية وألحان التراث السوري، وقد صيغت بأسلوب ولغة الموسيقى السيمفونية، فيتذوقونها بسهولة ويكتشفون مدى ثراء هذه الموسيقى العربية ومرونتها التعبيرية وطاقاتها الجمالية المختلفة. والسيمفونية الخامسة تجسد كل هذه المعاني والأهداق كحلقة من سلسلة إبداعات مالك جندلي في مختلف فروع التأليف الموسيقي، من سيمفونية إلى أوبرا إلى كونشرتو وقصيد سيمفوني وما إلى هنالك.
تم تأليف السيمفونية الخامسة في سلم سي الكبير للأوركسترا التي تضم مجموعة الآلات الوترية والخشبيات والنحاسيات، بالإضافة إلى مجموعة من الآلات الإيقاعية المتميزة التي يبرز دورها واضحاً في هذا العمل. تتكون السيمفونية من أربع حركات لكل منها طابعها الخاص، لكنها مترابطة من حيث الفكرة الموسيقية والتطور اللحني، وتضم عدداً من الثيمات الموسيقية الجميلة، وتتميز بثراء الألوان الصوتية وحسن توزيع الأنغام على آلات الأوركسترا ومجموعاتها المختلفة، وتنوع إيقاعاتها وأجوائها بين السرعة والبطء والارتفاع والانخفاض والثورة والهدوء، بالإضافة إلى تنوع المقامات أيضاً ما يؤدي إلى خلق حالات شعورية متعددة وتوصيلها إلى السامع.
تأتي الحركة الأولى من السيمفونية على شكل سوناتا تنقسم إلى ثلاثة أقسام، في القسم الأول الذي نستمع إليه بعد تمهيد سريع مختصر، يعمل جندلي على فكرتين موسيقيتين متباينتين أو موضوعين موسيقيين، الموضوع الأول نشط حيوي والموضوع الثاني أكثر غنائية وشاعرية. يعتمد الموضوع الأول على سماعي سوري قديم، بينما يعتمد الموضوع الثاني على موتيف من موشح سوري بعنوان اسق العطاش، يرتبط هذا الموشح بفترات الجفاف في مدينة حلب والدعاء والصلاة طلباً للمطر. في القسم الأول من الحركة يعرض جندلي هاتين الفكرتين الموسيقيتين، ثم يذهب بهما إلى القسم الثاني من الحركة حيث التفاعل والتطوير، من خلال تناول الفكرتين بتغييرات في اللحن والهارموني، تتفاعل الثيمتان وينبثق عنهما أنغام جديدة، ونستمع إلى الثيمة نفسها بشكل بطيء هادئ ومتقطع أحياناً. يتصاعد التفاعل ويتسارع إلى أن تعود الثيمة الرئيسية للظهور بشكل واضح، مع تصاعد الضربات الإيقاعية المصاحبة لها في الخلفية. حيث نكون في القسم الثالث والأخير من الحركة الأولى الذي يقوم بالإعادة والتلخيص، تنتهي الحركة بذروة فرحة وجملة ختامية مشوقة.
ألف مالك جندلي الحركة الثانية في شكل النوكتيرن أو الليلية، وجاءت انعكاساً لتأثره بليلة خريفية أثناء زيارته لجبال سموكي العظيمة في الولايات المتحدة الأمريكية. الثيمة الرئيسية في هذه الحركة مستمدة من سماعي حسيني لتاتيوس أفندي، الحركة ذات طابع موسيقي حالم يعكس أجواء الليل والهدوء والتأمل، فيها لحن رئيسي رقيق وعاطفي بإيقاع هادئ وتدفق حر مع بعض الدرامية دون إفراط بالإضافة إلى الغموض الساحر المثير، كما تتميز الحركة بتآلفاتها الصوتية الشاعرية وانسجاماتها الغنية. تعكس الحركة جمال الطبيعة وربما الشعور بالرهبة أمام جلالها وعظمة أسرارها.
بعد هذه الحركة الهادئة تأتي الحركة الثالثة لتخلق أجواء مغايرة تماماً لأجواء الليل والهدوء والتأمل، من خلال قالب الاسكرتسو المرح والنغمات الرشيقة السريعة المتلاحقة بخفة وحيوية، تتميز الحركة بإيقاعها السريع النشط ويلاحظ فيها عناصر المفاجأة والاندفاع، تبدأ بجملة موسيقية نشطة وتكرار حركي ولحن حيوي مع بعض التغييرات والزخارف، وتكون الجمل اللحنية قصيرة ومتقطعة لخلق الإيقاع النشط، ويلاحظ استخدام آلات النفخ والإيقاع بشكل أكبر لخلق المزيد من التأثيرات اللونية وإضافة المزيد من الحيوية وتأكيد الطابع المرح، كما نستمع إلى استلهام من سماعي قديم والجملة الختامية التي تستدعي مقدمة الحركة الأولى. ومن مالر وشوستاكوفيتش يستلهم جندلي بعض التقاليد الموسيقية في الحركة الرابعة والأخيرة، وكذلك بعض التقنيات التي لم يعتمد عليها كثيراً من قبل، الثيمة الرئيسية في الحركة مستمدة من سماعي حزام قديم، وينتقل السامع بين الأنغام السريعة المفاجئة والمرتفعة القوية والناعمة الرقيقة، ويستمتع بانفرادات الهوائيات الخشبية وكذلك انفرادات الكمان الرائعة حتى ذروة الحركة القوية والختام المدوي ثم التوقف الكبير.