صدرت السيمفونية رقم 2 إشراق عام 2016 ضمن ألبوم هيرايث الذي تم تسجيله بواسطة أوركسترا زغرب الفيلهارموني، السيمفونية مؤلفة في سلم B الصغير وتتكون من أربع حركات ويستغرق عزفها ما يقرب من نصف ساعة.
ارتبط تأليف هذا العمل وإلهامه بتجربة شخصية خاضها مالك جندلي بنفسه، ولحظة مؤثرة توقف أمامها وتركت أثراً في نفسه وأضاءت من معاني الإنسانية والحياة ما أراد أن يعبر عنه من خلال موسيقاه، وأن ينقله إلى الآخرين ويشارك الجميع في أثر تلك اللحظة التي عاشها ذات يوم.
عام 2012 قام مالك جندلي بالسفر إلى شمال سوريا وزار مخيمات اللاجئين السوريين، والتقى بعدد من الأطفال الذين هجروا من مدنهم واقتلعوا من بيوتهم، ووضعوا في مخيمات الإيواء وسط ظروف قاسية وأحوال بائسة للغاية، فكانوا يعيشون في الخيام وهم يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة، كالمياه النظيفة الصالحة والتدفئة في طقس شديد البرودة، ولا يتلقون التعليم الواجب أن يتلقوه، فقد هُدمت مدارسهم ودمر الطاغية كل أبجديات الحياة وأسس العيش من حولهم.
تحت هذه الظروف الصعبة والأوضاع القاسية، كان هؤلاء الأطفال يعيشون ويدفعون من أرواحهم وأعمارهم البريئة أثمان الظلم والديكتاتورية الباهظة. ذات مساء كان مالك جندلي في طريقه من مخيم إلى زيارة مخيم آخر، وفي ظلام الليل مر على مجموعة من الأطفال وسمعهم وهم يغنون للحرية والمستقبل المزدهر بالأمن والسلام كما يحلمون، وينادون بسقوط الطاغية الديكتاتور الذي أجبرهم قسراً على ترك بيوتهم ومدارسهم. لم يكن الأطفال يغنون كفعل فني أمام جمهور أو في احتفال أو مسابقة مثلاً، وإنما كانوا يغنون كفعل مقاومة وتشبث بالحياة، تصرف فطري تلقائي يرتبط بالإحساس والشعور تجاه كل ما يقع أكثر منه بالوعي، لم يكن هناك أحد ليراهم أو ليسمعهم ورغم ذلك رفعوا أصواتهم بغناء وصل إلى أسماع مالك جندلي، وتسرب إلى نفسه ما كانوا يبعثونه من نور وإشراق وشجاعة وتفاؤل وأمل، هكذا كانوا أطفال سوريا في مخيمات اللجوء الإلهام وراء تأليف سيمفونية إشراق، التي صارت صوتاً لهؤلاء الأطفال الذين كانوا يغنون وحدهم في جنح الظلام كما يقول مالك جندلي دائماً إنه يريد أن تكون موسيقاه صوتاً لمن لا صوت لهم.
على غرار موسيقى القرن العشرين أتت اللغة الموسيقية لهذا العمل المؤلف لأوركسترا الحجرة، وعلى الرغم من أن هذه الأوركسترا تضم عدداً من الآلات الموسيقية أقل من التي تكون موجودة في الأوركسترا الكاملة، إلا أن هناك تلويناً موسيقياً واسعاً وثراء في الألحان والأصوات ويمتلئ العمل بالتفاصيل الفنية بالإضافة إلى القوة التعبيرية، وكالعادة يوظف مالك جندلي المقامات الشرقية بطريقة أكاديمية ضمن نظرية علم الهارموني للموسيقى الكلاسيكية، ويدمج الألحان السورية القديمة التقليدية والتراثية والشعبية في قالب السيمفونية الغربي، وكبقية أعمال مالك جندلي يسعى هذا العمل إلى الحفاظ على التراث السوري وتقديم موسيقى سوريا إلى العالم بلغة كلاسكية أكاديمية في وقت كانت فيه الثقافة السورية تتعرض للمحو والتدمير الممنهج.
تستهل الحركة الأولى معتدلة السرعة بمقدمة درامية وتصاعد صوتي لضربات آلات الإيقاع وأنغام النفخيات النحاسية، تسود أجواء التوتر والقلق ولمسات الحزن والأسى، تتفاعل الموسيقى وتثور الأنغام وتتوالى الذروات، ثم نستمع إلى لحن هادئ لا يخلو من الحزن واللمحات الغاضبة ينتهي إلى نغمات بطيئة متفرقة تمهد لظهور الثيمة الرئيسية في الحركة، ثيمة الدلعونا، ذلك اللحن التراثي التقليدي الشهير الذي يعد من أهم العلامات الدالة على موسيقى بلاد الشام وثقافتها الفنية، في البداية نستمع إلى الدلعونا كما هي مرتين متتاليتين ثم نسمعها بتنويع جديد في المرة الثالثة، وتذهب الموسيقى تستعرض أفكارها الخاصة، وتخلق ذروة كبيرة وأجواء عاصفة، كما نستمع إلى طيف الدلعونا من بعيد عن طريق جمل موسيقية متفرقة، وتكون النهاية من خلال نغمات هادئة ممتدة.
في الحركة الثانية نستمع إلى اسكيرتسو بإيقاعات سريعة حيوية مرحة، تبدأ الحركة بلحن منغم جميل مع صوت الفلوت والوتريات وتصاعد النحاسيات من حين لآخر بنغمات متتالية أو كخطوات متلاحقة. ينبثق لحن منغم وذروة كبيرة يعقبها لحن آخر، يتسم الجزء الأول من الحركة بالخفة والرشاقة والألحان المضيئة الحيوية، ويميل القسم الأوسط إلى المزيد من التعبيرية والتأمل، ويكون فيه عرض وتفاعل للأفكار الموسيقية، بينما يكون الجزء الأخير من الحركة أشبه بذروة هائلة مستمرة وفورة نغمية كبيرة تتلاحم فيها الخطوط الميلودية والألحان السابقة مع ضربات الإيقاع والآلات النحاسية.
في الحركة الثالثة نكون مع الأداجيو الذي يمثل القسم البطيء من السيمفونية، تفتتح الحركة بتصاعد ضربات الآلات الإيقاعية، نستمع إلى لحن تعزفه النفخيات النحاسية والخشبية ثم نستمع إلى ثيمة وادعة شجية تعزفها الهوائيات الخشبية ثم الوتريات، تنتقل الموسيقى بعد ذلك إلى ثيمة أخرى ونكون مع هدوء الوتريات وأنغامها الحزينة التي تلامس المشاعر، تتصاعد الموسيقى تدريجياً ونستمع إلى نغمة طويلة ممتدة في منتصف الحركة لتنفتح الموسيقى بعد ذلك على ثيمة أكثر غنائية، تنتقل بها الأوركسترا إلى أداء درامي تكلله نفخات النحاسيات المرتفعة، ثم نكون مع الختام الأكثر بطئاً.
وفي الحركة الرابعة التي تمثل الجزء السريع من السيمفونية نكون مع بداية سريعة أيضاً ودخول مباشر في الموضوع كما لو كان الحديث بلا مقدمات، تتلاحم أصوات النفخيات النحاسية والخشبية وآلات الإيقاع، ويكون التفاعل على أشده حتى تهدأ الموسيقى ونصغي إلى حضور الوتريات رفقة الآلات الأخرى وانفراد الفلوت بصوته الشجي، ثم نستمع إلى لحن حيوي وتصاعد كبير في منتصف الحركة، ويعود اللحن السابق بأداء أكثر سرعة وحيوية، في الختام تشهد الموسيقى تحولاً نحو المزيد من القوة والتأثير اتجاهاً نحو الهاية الدرامية الملحمية.