كونشرتو الكمان والأوركسترا

“إلى كل نساء العالم اللواتي ازدهرن بالشجاعة” أهدى مالك جندلي كونشرتو الكمان والأوركسترا الذي بدأ في تأليفه عام 2013 وأكمله عام 2014، إلى طل الملوحي المدونة السورية التي اعتقلت في الثامنة عشر من عمرها، إلى رزان زيتونة محامية حقوق الإنسان المختفية قسراً حتى الآن، إلى رانيا العباسي طبيبة الأسنان وبطلة الشطرنج التي اختفت في غياهب المعتقل مع زوجها وأطفالهما الستة لأسباب غير معروفة منذ 2013، إلى لينا دروبي والدة الموسيقار مالك جندلي التي تعرضت هي ووالده للضرب والاعتداء الوحشي العنيف في منزلهما بمدينة حمص، بعد أن قام جندلي بالعزف في تظاهرة سلمية أمام البيت الأبيض بواشنطن عام 2011 دعماً للثورة السورية، إلى الصحفية الأمريكية العالمية ماري كولفين التي قتلتها عصابات النظام في مدينة حمص وهي تؤدي عملها بحثاً عن الحقيقة، إلى كل السجينات والمعتقلات، إلى كل امرأة وأم تختبر الخوف وتعيش ظروفاً قاسية في سوريا، إلى أمهات الشهداء، إلى أم الشهيد عبد الباسط الساروت أحد أهم رموز الثورة السورية، إلى المتطوعات في فريق الخوذ البيضاء والدفاع المدني نُصرة للمظلومين والمهجرين قسرياً في مخيمات اللجوء. 

ربما تطول القائمة وتمتد وتظل مفتوحة لا تضع نقطة النهاية لتضم المزيد والمزيد من النساء، لكن تظل رمزية هذا الكونشرتو أشمل وأكثر اتساعاً، إنه كونشرتو مهدى إلى المرأة قيمةً ومعنىً ووجوداً، كما أنه رسالة تدعو إلى تقدير المرأة وإعلاء مكانتها في كل زمان ومكان. لا يقتصر حضور المرأة في كونشرتو الكمان والأوركسترا على الفكرة والرمز فحسب، بل إن للمرأة وجودها الفعلي ودورها الحيوي الأساسي في هذا العمل الموسيقي، فهناك عازفة الكمان الأمريكية ريتشل بارتون باين التي أهدى إليها مالك جندلي الكونشرتو أيضاً، قامت ريتشل بارتون باين بعزف مقاطع الكونشرتو على كمان تاريخي يذهب بنا إلى زمن قديم وامرأة أخرى كانت من أوائل النساء اللاتي احترفن العزف الموسيقي، حيث يعود هذا الكمان التاريخي لامرأة نمساوية تدعى ماري سولدات عاشت في القرن التاسع عشر، في وقت لم يكن متاحاً فيه للنساء احتراف العمل كعازفات موسيقيات، وقد أُعجب الموسيقار الألماني يوهان برامز بعزفها وأحضرها إلى برلين لتدرس على يد صديقه جوزيف يواكيم، وأصبحت أول عازفة تؤدي أعمال برامز الموسيقية. على هذا الكمان التاريخي الذي يعود إلى ماري سولدات عزفت ريتشل بارتون باين أثناء تسجيل الكونشرتو إلى جانب أوركسترا راديو فيينا السيمفوني، التي قادتها امرأة أيضاً تعد من الرائدات المتميزات في مجال جرت العادة أن تكون الغالبية فيه من الرجال، وهي المايسترو الأمريكية مارين ألسوب التي شاركت مالك جندلي في تسجيل وتقديم العديد من أعماله. هكذا كانت المرأة جزءاً أصيلاً من كونشرتو البيانو والأوركسترا الذي يصور بعضاً من معاناة نساء سوريا الهائلة ويحتفي بشجاعتهن، ويحفظ في الوقت ذاته تراث سوريا الثقافي ويقدم وجوهاً وألواناً من فنونها الموسيقية بشكل هارموني بديع في موسيقى سيمفونية أوركسترالية رفيعة.

تتصدر الكمان كبطلة للعمل ترافقها الأوركسترا التي تشاركها وتدعمها وتتفاعل معها، وتحيطها بالكثير من التأثيرات الأخرى وتخلق من حولها الأجواء اللازمة للتعبير عن موضوع الكونشرتو، وبشكل عام يتيح قالب الكونشرتو للمؤلف الموسيقي فرصة إظهار مهارته في التأليف لآلة موسيقية بعينها، وهو ما يتطلب بدوره مهارة كبيرة من العازف الذي يجب أن يكون عازفاً متميزاً صنّاعاً. في كونشرتو الكمان والأوركسترا نستمع إلى مجموعة رائعة من الثيمات والألحان والجمل الموسيقية، سواء التي تؤديها الكمان منفردة أو التي تؤديها الأوركسترا والآلات الموسيقية الأخرى، ونستمع كذلك إلى مجموعة من الألحان القديمة من تراث سوريا الموسيقي، والمقامات الشرقية العربية وقوالب السماعي والبشرف ورقصة اللونجا السورية التراثية، قدم مالك جندلي كل هذا في إطار هارموني أوركسترالي متقن من خلال عمل موسيقي فريد بفكرته ورسالته السامية، وكذلك بتركيبه الفني المعقد الممتلئ بالتفاصيل الثرية رائعة التنسيق، ويتميز هذا العمل أيضاً بوجود العود، ذلك الصوت العربي الخالص الذي ضمه جندلي إلى الأوركسترا ووظف أنغامه كتعبير عن الوطن السوري والهوية السورية، حين يظهر في أوقات معينة بلمسات بالغة الحساسية والتأثير.

يتألف كونشرتو الكمان والأوركسترا من ثلاث حركات، الحركة الأولى متوسطة السرعة وهي أطول حركات الكونشرتو، تبدأ بدخول عاصف قلق إلى حد ما تحتشد فيه آلات الأوركسترا، وبعد ذروة تصاعدية يُسمع صوت الكمان يعزف أولى ثيمات الكونشرتو مقطوعة سماعي قديم من مقام زنكلاه للموسيقار والباحث السوري الحلبي الشيخ علي الدرويش 1884 – 1952، تتكرر الثيمة مرتين في البداية يكون بينهما فاصل من الموسيقى المضطربة قليلاً، وتنطلق الثيمة في المرة الثانية بتنويع جديد يشهد بعض تقطعات الكمان وانفراداتها وامتداداتها الصوتية التي قد تبدو كارتجالات أو تأملات موسيقية، تعود بعدها الكمان للثيمة من جديد حيث تعزفها مع الأوركسترا بتعدد صوتي، وهي ثيمة رائعة بلحنها ومقامها الشرقي العربي وما أضافه إليها مالك جندلي من هارموني. تنتقل الحركة بعد ذلك إلى الثيمة الثانية “ثيمة النساء” كما يسميها مالك جندلي المستوحاة من موسيقى شعبية تقليدية سورية ترتبط بطريق الحرير الذي كان يمر بحلب وتدمر في سوريا، وهي ثيمة بديعة تحتوي على جمال الميلودي والشجن والعذوبة والتعبير عن الألم، صنع مالك جندلي استقبالاً رائعاً لثيمة النساء وتمهيداً يليق بها، حيث يبدأ الأمر بترديد البوق الفرنسي للثيمة مع نبرات متقطعة متفرقة من العود بإيقاع منتظم، يردد البوق الفرنسي الثيمة لمرة واحدة فقط كنوع من التمهيد أو الإعلان عن الشيء المهم القادم “ثيمة النساء”، ومع ارتعاشة رهيفة من أوتار العود يكون الإيذان بدخول الكمان لتقوم هي بعزف ثيمة النساء التي سيستمر وجودها بشكل أو بآخر حتى نهاية الحركة، ويظهر العود في نهاية الثيمة أيضاً بجملة موسيقية حزينة شديدة الجمال.

 بعد ثيمة النساء تعود الموسيقى إلى الاضطراب والقلق وبعض الانفرادات للكمان التي تبدو غاضبة ثائرة كأنها تخوض صراعاً من نوع ما مع طرف مناوئ تمثله الأوركسترا، تخرج الموسيقى من هذا الاضطراب إلى ثيمة النساء مرة أخرى أو إلى جملة منها بتحوير مختلف، ثم يدخل الفلوت ليعزف جزءاً من الثيمة أيضاً مع امتدادات نغمية من الكمان تنتهي إلى غضب جديد، وحوار بين الكمان والأوركسترا تختتمه ذروة تصاعدية كبيرة يعقبه صوت هائل ممتد كأنه نفير يُضرب ويكون هذا في منتصف الحركة تقريباً، نستمع بعد ذلك إلى بشرف قديم قصير ثم تغوص الكمان في تأملاتها لبعض الوقت، وتعود ثيمة النساء بلون جديد أكثر حزناً ودرامية، وفي المقطع الأخير من الحركة تنطلق الكمان وحدها في وصلة موسيقية تبدو ارتجالية تنهيها بالعودة إلى ثيمة النساء أيضاً وبتلوين مختلف، يظهر العود في نهاية الحركة حيث يعزف ثيمة النساء بشجن مضاعف يعبر عن تذكر مالك جندلي لوطنه سوريا أو هو الإحساس السوري الخالص النابع من أعماق الموسيقار، تقوم الكمان ببعض التداخلات التي تقسم ثيمة النساء بصوت العود إلى قسمين، وبعد أن ينتهي العود من العزف تقول الكمان كلمتها الأخيرة وتختتم الحركة.

ببداية هادئة ذات حزن شفيف تنطلق الحركة الثانية البطيئة من خلال مقطوعة سماعي سورية قديمة تعزفها الأوركسترا أولاً ثم ترددها الكمان منفردة، مع تجاوبات من الأوركسترا في الخلفية، تمتد الثيمة ويتفرع عنها لحن ممتد بطيء نستمع بعده إلى ثيمة الأوبوا التي هي مقطوعة سماعي قديم من مقام حجاز ليوسف باشا، ثم سماعي آخر قديم تؤديه الكمان يليه سماعي آخر تؤديه الأوركسترا كلها، ثم سماعي آخر يعمل كجسر انتقالي يمهد لاجتماع العود مع الكمان، حيث تدخل نغمات العود النابضة بالشجن السوري الأصيل لترافق الكمان وتتبادل معها اللحن، ثم يحدث احتشاد موسيقي يؤدي إلى ذروة كبيرة تقود إلى عودة الثيمة الافتتاحية للحركة، وتدخل الكمان بحزن عميق كما لو أنها تبكي وتنوح وترثي الحال، فيرد عليها العود ليؤكد الحزن والألم ويتبادلان معاً نغمات النهاية. تبدأ الحركة الثالثة بعزف الكمان لمقطوعة سماعي قديم، يدخل العود بعدها ليعزف مقطوعة سماعي أخرى من مقام كار جهار لطاطيوس أفندي 1858 – 1913 بتوقيع منظم وضربات مجزأة، تُكمل الكمان ما بدأه العود وتشتبك الأوركسترا مع كل منهما. تشهد الموسيقى بعض التصاعد من الكمان والأوركسترا، تتسارع وتيرة هذا التصاعد لتلتحم ذروته الخاطفة بدخول رقصة اللونجا السورية التراثية، وهي الرقصة التي كانت تؤديها النساء في نهاية غناء الموشحات، يكون لرقصة اللونجا أثرا مشرقاً في الموسيقى حيث تبدأ الكمان بعزفها بشكل شديد الحيوية، تتجه الكمان بعد ذلك إلى الهدوء بنغم حزين ثم تذهب إلى القوة والسرعة مرة أخرى، تأخذ الكمان في الصعود وتجيش الأوركسترا بالمشاعر الهادرة، ثم تعود الكمان بنغم بطيء ممتد من الثيمة الافتتاحية يعلن النهاية مع تصاعد الأوركسترا.