السيمفونية السورية هي السيمفونية رقم 1 في قائمة سيمفونيات مالك جندلي، بدأ تأليفها عام 2011 في الولايات المتحدة الأمريكية، أما تسجيلها فكان في موسكو بأداء الأوركسترا الروسية الفيلهارمونية، وقد شهدت عملية التأليف بعض الانقطاعات والتوقف لإنجاز مؤلفات موسيقية أخرى، مثل كونشرتو الكمان والأوركسترا، تنويعات للبيانو والأوركسترا، سوريا نشيد الأحرار، ثلاثي البيانو والتشيللو والعود. تم الانتهاء من الحركة الثالثة البطيئة خلال أسبوع واحد فقط، بعد وقت قصير من الهجوم الكيماوي على الغوطة – ريف دمشق بتاريخ 21 أغسطس/ آب 2013، ثم أُطلقت السيمفونية وعُزفت للمرة الأولى في قاعة كارنيغي الأمريكية بنيويورك يوم 31 يناير/ كانون الثاني 2015.
عندما قام الشعب السوري بثورته السلمية من أجل الحرية وحقوق الإنسان والعدالة، وعندما كانت القذائف وكافة صنوف الأهوال تسقط على أهل سوريا، فتجبر ملايين العائلات السورية بما فيها عائلة الموسيقار على الهجرة إلى المنافي، عندما كان يحدث ذلك كله وفي تلك الظروف العصيبة، كان مالك جندلي يؤلف موسيقى السيمفونية السورية وغيرها من الأعمال النابعة من صميم الثورة ومأساة الشعب السوري كواجب والتزام وطني وأخلاقي، إذ أراد جندلي أن يمنح صوتاً لمن لا صوت لهم، وأن يُسمع العالم صوت ثورة بلاده بشكل آخر من خلال الفن، وأن يوثق ذلك الحدث التاريخي العظيم ويدون بأحرف الموسيقى صفحات ملحمية من تاريخ سوريا والشعب السوري، وأراد كذلك أن يجد من سوف يأتي بعد مئات السنين موسيقى تعبر عن هذه الثورة، وتروي شيئاً من نضال هذا الشعب وما بذله في سبيل الحرية والكرامة.
تتكون السيمفونية المؤلفة في سلم F الكبير من أربع حركات تسير على نحو (سريع لكن ليس شديد السرعة – معتدل – بطيء – سريع) تُشكل في مجموعها هيكلاً بنائياً فريداً، يحمل إلى جانب دقة تصميمه أثراً درامياً ونفسياً كبيراً، حيث يُصور أفكاراً وألواناً متعددة من المشاعر الوطنية والإنسانية، كما تهدف السيمفونية إلى حفظ الذاكرة والتراث والهوية الثقافية لسوريا في لحظات بالغة الأهمية والخطورة من تاريخها.
جسّد مالك جندلي في سيمفونيته عنفوان الثورة وإشراقها وقوتها الواثقة، والإيمان العميق بالحرية وحقوق المرء العادلة التي يجب أن ينالها في وطنه، وما تعرّض له الشعب السوري الثائر من أعنف أنواع القمع والاستبداد ومواجهته لأعتى الديكتاتوريات، وصوّر ذلك الصراع الرهيب بين الحق والسلم وقيم الخير ومبادئ العدل من جهة وأقصى درجات التوحش والطغيان من جهة أخرى، وعبّر عن لحظات الأمل واستنشاق هواء الحرية وتنّسم عبيرها عندما تسير الموسيقى بخفة ورشاقة كما لو أنها ترقص رقصة الحرية، كما جسّد الآلام والأحزان والتعب الجّم من جراء المواجهة، واللحظات الأكثر سوداوية وسط بحور الدماء وبقايا أجساد تناثرت وطفولة ذُبحت من الوريد إلى الوريد، ثم أعلن استعادة القوة ومحاولة ترميم النفس السورية على الرغم من كل ما حدث، وشد الأزر والاتحاد والعزم على المضي في طريق الحرية الذي لا طريق غيره. تصل كل هذه الصور والأفكار إلى المستمع بينما هو يصغي إلى موسيقى السيمفونية السورية في حركاتها الأربع، حيث يمكن القول إن كل حركة من هذه الحركات تعكس حالة من حالات الثورة وطوراً من أطوارها، وأثناء الإصغاء تحيط بالسامع مجموعة كبيرة من الجماليات كالنسيج البوليفوني البديع والثيمات الموسيقية الرائعة حيث نستمع إلى عدة ألحان وخطوط ميلودية في وقت واحد، وأسلوب البناء الموسيقي المحكم، وتطور الألحان والانتقالات النغمية وكيف تؤدي كل نغمة إلى الأخرى والترابط والتشابك بين الأفكار والمواضيع الموسيقية، والانطلاق من ثيمة أو جملة موسيقية نحو شيء هائل أكبر وأضخم، وتوزيع السيمفونية على آلات الأوركسترا المختلفة حيث تقوم كل آلة بدورها الصوتي والتعبيري وايحائها الشعوري والنفسي كما وظفها الموسيقار، وتراوح الإيقاع بين درجات السرعة والبطء وتبدل الأجواء بين الألم والأمل، وخلق الصراع والتفاعل الموسيقي والبراعة في ابتداء كل حركة وانهائها ببلاغة موحية، وذلك الاتصال الذي يوحي بالشكل الدائري عندما تُعزف ثيمة الحركة الأولى في ختام السيمفونية.
بالحركة الأولى تبدأ السيمفونية ومع أولى نغماتها يدخل المستمع في أجواء العمل وينغمس تدريجياً في موضوعه ويتعرف على أفكاره الواحدة تلو الأخرى، يمكن القول إن الحركة الأولى هي حركة قيام الثورة، فقد هب الشعب وانطلق شجاعاً مقداماً واتخذ خطوته الجبارة نحو الحرية، ثم اصطدم بأبشع أنواع الطغيان والاستبداد والديكتاتورية وأقسى أساليب القمع والتنكيل، وخاض صراعاً رهيباً تصوره الموسيقى ببراعة. الحركة الأولى أطول حركات السيمفونية وهي حركة سريعة لكن ليست سريعة للغاية تحتوي على ثيمتين مستلهمتين من أغنيات الشارع السوري، يمكن تقسيم هذه الحركة إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول الذي يتم فيه عرض الثيمتين، الثيمة الأولى والثيمة الثانية، أو الموضوع الأول والموضوع الثاني، ثم القسم الثاني الذي يتم فيه التفاعل بين هاتين الثيمتين وأفكار موسيقية أخرى، حيث يجري تناول الموضوعين بطرق جديدة وبشكل حر بالإضافة إلى تحوير الألحان والتنويع عليها وانتقال الموسيقى بين مقامات مختلفة، انتهاءً بالقسم الثالث قسم التلخيص أو الختام، وفيه نستمع إلى ما يعقب الصراع في قسم التفاعل الذي ينتهي بذروة هائلة وتصاعد موسيقي كبير.
في الدقيقة 1 من الحركة الأولى نستمع إلى ثيمة / هتاف يعد من أشهر هتافات الثورة السورية أو شعارها الرئيسي الذي يعبر عن التجاء الشعب السوري إلى الله عز وجل وحده دون سواه بعد أن خذله العالم بأسره وتخلى عن مطالبه الإنسانية المشروعة وغض الطرف عن أبشع جرائم العصر الحديث. هذا الهتاف هو “يا درعا احنا معاك للموت” الذي نادى به الشعب عندما انتفض أطفال درعا وانتشرت الثورة إلى مدينة حمص، وعندما أدرك الشعب السوري حقيقة الخذلان العظيم استبدل الكلمات وحول الهتاف إلى “يا الله ما لنا غيرك يا الله”، في الدقيقة الخامسة من الحركة الأولى نستمع إلى هذه الثيمة مرة أخرى لكن بشكل أسرع.
في الدقيقة الثانية من الحركة الأولى نستمع إلى ثيمة الشهيد حمزة الخطيب رمز من رموز الثورة الثورة، والأيقونة التي تجسد براءة الطفولة ومدى وحشية ما تعرض له الشعب السوري في مواجهة أعنف الأنظمة الديكتاتورية، حمزة الخطيب ذلك الطفل الشهيد الذي تنطبع صورته في ذاكرة كل من رآها يوماً، بوجهه الملائكي وملامحه العذبة البرئية، ذلك التناقض الرهيب بين صاحب تلك الملامح وهو في عمر الزهور وبين مقتله البشع بطريقة رهيبة على أيدي مجرمين لم يرحموا طفولته. كذلك جعل ملك جندلي من ثيمة حمزة الخطيب في سيمفونيته لحظات تنطبع في ذهن السامع وتؤثر في نفسه، وقد نقل إلى الموسيقى براءة حمزة الخطيب وجمال روحه وطفولته الشفيفة في أنغام مغلفة بحزن أبدي مهيب، تعود ثيمة حمزة الخطيب مرة أخرى في الدقيقة الثامنة من خلف صوت الكمان الحزين بألم مضاعف.
وفي الدقيقة 3:49 والدقيقة 9:25 نستمع إلى ثيمة “سكابا العين” وهي من هتافات الثورة السورية أيضاً، وقد تم توظيفها بشكل سريع للدلالة على الخطورة والاستعجال الطارئ.
هكذا يتنقل السامع بين جمل موسيقية وذروات وألحان تلعبها الآلات الموسيقية المختلفة من وتريات وهوائيات خشبية ونحاسيات وآلات الإيقاع والهارب والإكسليفون، وتتبع الأذن ثيمتي الحركة في تطورهما وتكرارهما وما يقع من تبادل بينهما، الثيمة الأولى وهي أكثر درامية، والثيمة الثانية وهي أكثر ميلودية أو أكثر غنائية، وتنتقل الموسيقى من الصيغة الدرامية إلى الصيغة الغنائية عبر جسر انتقالي قصير يضيف جمالاً إلى الموسيقى، يعود اللحن الرئيسي في القسم الثالث من الحركة بصورة هادئة مع لحن آخر تؤديه الكمان والباصون، وتعود الثيمة الغنائية في النهاية مع خفوت الموسيقى وصمت الختام، وفي منتصف الحركة تقريباً نجد استعادة جزئية للموضوع الموسيقي الأول أو الثيمة الأولى، فنسمعها متقطعة مجزأة على مراحل، كما لو أنها تتناثر وتتفرق على اللحن، أو كأنها تحاول أن تلتئم وتجمع شتاتها وتنطلق كاملة.
الحركة الثانية متوسطة السرعة فيها لحن حيوي ذو ميلودية جميلة مفعم بالحياة موقع بإيقاعات رشيقة كأنه رقصة الحرية، ترمز هذه الثيمة إلى ما كان يقوم به الشعب السوري من تحويل جنازات الضحايا والشهداء إلى “أعراس” تحتفي بالشهادة والنصر الأبدي والحرية القادمة لا محالة. يتكرر هذا اللحن عدة مرات في حركة ليست بالطويلة، فيصبح التكرار جمالية في حد ذاته، نظراً للإبداع والتنويع وخلق الأثر الشعوري الجديد في كل مرة يتكرر فيها هذا اللحن، هنا في هذه الحركة نشعر بأن المعنويات مرتفعة وإن كان يتخللها لحظة حزن ربما لتذكر من ذهبت أرواحهم فداء لحرية الوطن والشعب، هذا اللحن الرئيسي أو الثيمة الأولى توقعه ضربات الآلات الإيقاعية، مع جسر انتقالي حزين قصير يؤدي إلى ظهور آخر للثيمة بتلوين جديد مع ثراء إيقاعي أكبر. في الدقيقة 1:27 نستمع إلى ثيمة لطيفة بأنغام متقطعة متلاحقة ترمز للاستهزاء بمنظومة الفساد والاستبداد استلهمها جندلي من وحي الرجل البخاخ الذي كان يكتب شعارات الثورة على جدران الطرقات. ثم نستمع إلى لحن آخر أكثر غنائية كأنه نشيد ينشده الشعب ينتهي إلى ذروة متوسطة القوة مع لحظة صمت في المنتصف تفعل أثرها كلحظة تفكر أو تأمل، من بعدها تشد الموسيقى من أزرها مرة أخرى وتقوم من جديد بحيوية أكبر إلى أن تنتهي الحركة بثيمة البداية التي تُعزف لمرة واحدة على الكمان تليها ضربة إيقاعية كبرى تعلن الختام.
تبدأ الحركة الثالثة بضربات خافتة تأتي من بعيد الواحدة تلو الأخرى يتضح صوتها ويقوى تدريجياً مع سحبات الأقواس على الأوتار، هي بداية مشوبة بالقلق والخوف والتوتر كجريح قادم من بعيد ينزف ألماً ويحاول أن ينهض بصعوبة، يستمر القلق وتتجمع الأصوات وتتصاعد ثم نستمع إلى ثيمة حزينة بتعبيرات مختلفة من الفلوت والكمان حيث يسيل حزن الكمان المنفرد كزفرات حارة ودموع وعبرات مفعمة بالأسى، يرتفع صوت الكمان كإرتقاء الروح للخالق في سلام أبدي. في نهاية الحركة تعزف الكمان الثيمة الرئيسية بصيغة أبطأ تنتهي إلى الامتداد والخفوت مع الضربات المتوترة في الخلفية. نستمع في الدقيقة 2:18 إلى ثيمة طلع البدر الأنشودة التي استقبل بها الأنصار نبينا الكرم عند هجرته إلى المدينة المنورة، هذا الحضور الموسيقي ذو الطابع الديني يشير إلى الرجوع إلى الله والاحتماء بجواره من العنف والظلم والاستبداد. ويؤكد هذا المعنى ما نستمع إليه في الدقيقة 3:09 من عودة ثيمة يا الله ما لنا غيرك يا الله التي استمعنا إليها في الحركة الأولى. تمسكاً بالأمل المنشود وإيماناً بمستقبل سوريا وجمالها وثقافتها وتاريخها نستمع في الدقيقة 4:40 إلى سماعي قديم من مقام نهاوند، ثم تعود ثيمة طلع البدر مرة أخرى في الدقيقة 7:06
الحركة الثالثة هي الحركة البطيئة في السيمفونية ويغلب عليها الحزن والسوداوية وقد منحها ذلك اللون القاتم المزيد من الجاذبية، تبدو الأنغام مترعة بالآلام والحسرات تصف ما يقاسيه الشعب السوري وهو يسير في طريق الحرية الشائك العسير. يمكن القول إن الحركة الثالثة هي الفصل المُتعَب المكدود من فصول الثورة، حيث المجازر الوحشية والإبادة الجماعية التي قتلت ظلماً وعدواناً الآلاف من السوريين واغتالت الطفولة على أبشع صورة ممكنة، وحيث السجن والاعتقال والتعذيب والتهجير القسري وكافة الفظائع التي ترتكب في حق الإنسانية.
دخول موسيقي واثق يعلن بداية الحركة الرابعة، ذروة قوية تأتي سريعاً، ثيمة تتكرر ذات إيقاع راقص إلى حد ما، تصاعدات متتالية في المنتصف وتفاعل كبير يعقبه هدوء وتصاعد تدريجي لبعض النغمات القليلة، في الدقيقة 1:49 تقرع الطبول للإعلان عن حضور عبد الباسط الساروت أيقونة الثورة السورية وشهيدها الخالد بما كان له من تأثير كبير سيبقى راسخا في ضمير كل سوري، يأتي صوت عبد الباسط الساروت من خلال الموسيقى بأنغام الهوائيات الخشبية ثم تردد الأوركسترا من خلفها بشكل أكبر وأضخم، حيث تمثل الأوركسترا آلاف الناس الذين كانوا يرددون الغناء وراء الساروت، هنا تعبر الموسيقى عن الأمل رغم الألم في ثورة شعب لابد أن تنتصر. تعود ثيمة يا الله ما لنا غيرك يا الله مجددا في الدقيقة 3:51 والدقيقة 6:04. ثم نستمع إلى ثيمة الحركة الأولى في القسم الأخير من الحركة الرابعة بتحوير مختلف، في الدقيقة 8:11 يعلن انتصار الثورة، تتحرر الأوركسترا ويعلو صوت الأمل والحرية، نستمع إلى ذروة هائلة هي أكبر ذروات السيمفونية تعلن الحشد الكامل للقوة، والعزم على المضي في طريق الثورة إيماناً بقدرة الشعب الذي يجب أن تكون له الغلبة في النهاية مهما بلغت سطوة الديكتاتور من تجبر وطغيان، فالشعب يكون أقوى دائماً باتحاده وتماسكه، تبدو المعنويات مرتفعة في هذه الحركة أيضاً التي تتداخل فيها أصوات الآلات الموسيقية وتتقاطع ويلاحق بعضها بعضاً، ويتعاقب استنباط النغمات وخلق الأثر المعنوي الإيجابي، هي حركة تتوهج بحرارة الثورة وتنتهي بوميض الأمل والرجاء، وكانت استشرافأ وتنبؤاً بانتصار الثورة السورية.